موسوعة التأمين التعاوني

الصفحة الرئيسية » آثار اختبار التأمين الأخروي » آثار اختبار التأمين اﻷخروي ونتائجه (8)

آثار اختبار التأمين اﻷخروي ونتائجه (8)

أحدث التعليقات

على رضوان على التأمين التعاوني الإسلامي
محمد مجدلي على المقدمة

ذكر الله النفخ فى الصور فى عشر من سور القرآن الكريم هى :

1 – الأنعام

2 – الكهف

3 – طه

4- المؤمنون

5 – النمل

6 – ياسين

7 – الزّمُر

8 – ق

9 – الحاقة

10 – النبأ

نتأملها حسب ترتيبها فى المصحف كما يلى :

“وهو الذى خلق السموات والأرض بالحق .. ويوم يقول كن فيكون .. قوله الحق .. وله الملك .. يوم ينفخ فى الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير”

والمعنى :

يقول الله سبحانه وتعالى فى اللآيتين السابقتين على هذه الآيه لنبيه محمد صلي الله عليه وسلم قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين يدعونك إلى عبادة الأصنام التى لا تنفع من عبدها ولا تضر من ترك عبادتها..

قل لهم أيها الرسول إن هدى الله هو الهدى الحق الذى أمرنا الله أن نَنْقَاد له سبحانه وتعالى بالتزام توحيده وعبادته وحده .. وأمرنا بتقوى الله وامتثال أوامره وإجتناب نواهيه.

وهو وحده الذى يُجْمَعُ العباد إليه ليجازيهم على أعمالهم وهو سبحانه وتعالى الذى خلق السماوات والأرض بالحق يوم يقول الله للشئ كن فيكون- حين يقول يوم القيامه قوموا فيقومون – قوله الصدق الذى سيقع لا مَحَاَلة .. وله سبحانه وتعالى وحده الملك يوم القيامه حين ينفخ اسرافيل فى القرن النفخة الثانيه – وقيل الصور قرن كهيئة البوق-

وروى أنه جاء أعرابى إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال ما الصور : قال ” قرن ينفخ فيه “

وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ” كيف انتم وقد التقم صاحب القرن .. القرن وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر .. فينفخ فكان ذلك ثقل على أصحابه فقالو كيف نفعل يا رسول الله وكيف نقول قال قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا وربما قال توكلنا على الله”.

واجماع أهل السنه على أن المراد بالصور هو القرن الذى ينفخ فيه إسرافيل نفخة الصعق ونفخة البعث للحساب- وقوله تعالى” عالم الغيب والشهادة : يعنى أنه تعالى يعلم ماغاب عن عباده وما يشاهدونه فلا يغيب عن علمه شئ وهو الحكيم فى جميع أفعاله وتدبير خلقه- الخبير بكل ما يفعلونه من خير أو شر

“وتركنا بعضهم يومئذ يموج فى بعض ونفخ فى الصور فجمعناهم جمعا “

والمعنى الإجمالى :

وتركنا بعض الخلق آخر الزمان يضطربون ويختلطون ببعض ونفخ الصور فجمعنا الخلق كله للحساب والجزاء وبينت الآيه التاليه لهذه الآية : بعض معالم يوم القيامة بما معناه – وأظهرنا جهنم للكافرين إظهارا لا لبس فيه .

ويزيد الإمام علاء الدين البغدادى المعنى وضوحا عما جاء فى المختصر بقوله – قول الله عز وجل ” وتركنا بعضهم يومئذ يموج فى بعض ” قيل هذا عند فتح السد – يقول- تركنا يأجوج ومأجوج يموج أى يدخل بعضهم فى بعض كموج الماء .. ويختلط بعضهم فى بعض لكثرتهم- وقيل هذا عند قيام الساعة .. يدخل الخلق بعضهم فى بعض لكثرهم ..

وقوله تعالى ” ونفخ فى الصور” فيه دليل على أن خروج يأجوج من علامات قرب الساعه فجمعناهم جمعا ” أى فى صعيد واحد ..وعرضا ” أى ابرزنا “جهنم يومئذ للكافرين عرضا ” أى ليشاهدوها عيانا

وقال ابن كثير “فجمعناهم جمعا : أى احضرنا الجميع للحساب وأوضح الإمام الشوكانى معنى قوله تعالى”فجمعناهم جمعنا وعرضنا جهنم” أى جمعنا الخلائق بعد تلاشى أبدانهم

ومصيرها تربا .. جمعا تاما .. على أكمل صفه .. وأبدع هيئه .. وأعجب أسلوب – وعرضنا جهنم .. المراد بالعرض هنا : الإظهار: أى أظهر لهم جهنم حتى شاهدوها يوم جَمْعِها لهم ..

“يوم ينفخ فى الصور ونحشر المجرمين يومئذ ذرقا ” ويَتَمَّمْ معنى الآيه الآيتين التاليتين لها ونصهما : يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا 103- نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما 104-

والمعنى الإجمالى كما جاء فى المختصر لتفسير القرآن الكريم : “يوم ينفخ الملك فى الصور النفخة الثانية للبعث .. ونحشر الكفار فى ذلك اليوم : ذرقا لتغير ألوانهم وعيونهم من شدة..ماَلاَقّوْهُ من أهوال الاخرة..

يتهامسون بقولهم مالبثتم فى البَرْزَخ بعد الموت إلا عشر ليال- نحن أعلم بما يتَسَارّون به لا يفوتنا منه شئ .. إذ يقول أوفرهم عقلا ما لبثتم فى البرزخ إلا يوما واحداً لا أكثر.

وقال الإمام أبى عبدالله القرطبى فى تفسيره الجامع لأحكام القرآن:

قوله تعالى” يوم ينفخ فى الصور ” – أى ينفخ إسرافيل-

وقوله تعالى ” ونحشر المجرمين ” أى المشركين

وقوله تعالى ” زرقا ” ذكر أقوال كثيرة للعلماء والفقهاء وبعض الصحابه منها زرقا أى حال من المجرمين ” وزرقا ” أى عميا .. وقال أى عطاشا قد ازرقت أعينهم من شدة العطش .. وقال : لأن سواد العين يتغير ويزرق من العطش .. وقيل إنه الطمع الكاذب إذا تعقبته الخيبه وقيل : إن المراد بالزرقه شخوص البصر من شدة الخوف-

وذكر أنه قيل لإبن عباس فى قوله ” ونحشر المجرمين يومئذ زرقا ” وقوله فى موضع آخر ” ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما “

فقال : إن ليوم القيامة حالات .. فحالة يكون فيها زرقا وحالة عميا .. وذكر أنه جاء فى حديث لأنس أن رجلا قال : يا رسول الله الذين يحشرون على وجوههم .. أيحشر الكافر على وجهه؟ قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ” أليس الذى أمشاه على الرجلين قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامه :

قال قتاده حين بلغه : بلى وعزة ربنا – أخرجه البخارى ومسلم: “وحسبك عميا وبكما وصما ” قال ابن عباس والحسن : أى عمى عما يسرهم .. بكم عن التكلم بحجه .. صم عما ينفعهم وعلى هذا القول حواسهم باقية على ما كانت عليه .. وقيل إنهم يحشرون على الصفة التى وصفهم الله بها ليكون ذلك زيادة فى عذابهم (أنظر الجزء العاشر- ص 333 والجزء الحادى عشر ص 244وما بعدها)

وفى معنى قوله تعالى” يتخافتون بينهم أى يتسارون .. أى يقول بعضهم لبعض فى الموقف سرا ” إن لبثتم” أى ما لبثتم- يعنى- فى الدنيا- وقيل فى القبور” إلا عشراً يريد عشر ليال وقيل: أراد ما بين النفختين وهو أربعون سنة .. يرفع العذاب فى تلك المدة عن الكفار- ويخيل إلى اَعْقَلِهِم وأَعّلَمِهِم أنهم مالبثوا فى الدنيا إلا يوما واحدا لشدة مايرون من أهوال يوم القيامة .

وفى بيان واضح ومبسط ومحدد لمعنى الآية .. يتفق مع الحقائق التى يخبرنا الله سبحانه وتعالى بها فى النص القرآنى يسمح للمستويات العلمية والثقافية المختلفة فى عالمنا المعاصر .. بفهم المعنى المقصود .. يقدم لنا الإمام المراغى – فى تفسيره معنى الآية الكريمة كما يلى :-

حيث يبدأ بتفسير المفردات التاليه :

الصور : قرن ونحوه ينفخ فيه حين يدعى الناس إلى الحشر كما ينفخ فيه فى الدنيا حين الأسفار وفى المعسكرات.

زرقا : أى زرق الأبدان سود الوجوه لما هم فيه من الشدائد والأهوال.

يتخافتون بينهم أى : يخفضون أصواتهم ويخفونها .. لشدة مايرون من الهول.

إلا عشرا : أى عشرة أيام .

أمثلهم طريقة : أعدلهم رأيا وأرجحهم عقلا .

وفى معنى الآية قال:

” يوم ينفخ فى الصور” أى هذا اليوم هو يوم ينفخ فى الصور النفخة الثانيه إيذانا بالقيام للحشر والحساب.

” ونحشر المجرمين يومئذ زرقا ” أى فى هذا اليوم يساق المجرمون إلى المحشر شاحبى الألوان .. زرق الوجوه .. لما هم فيه من مكابدة الأهوال ومقاساة الشدائد التى تحل بهم.

” يتخافتون بينهم ” أى يخفضون أصواتهم ويهمس بعضهم فى أذن بعض لما أمتلأت به قلوبهم من الرعب والذعر.

وبمعنى الآية قوله تعالى” فلا تسمع إلا همسا “

“إن لبثتم إلا عشرا ” أى يقول بعضهم لبعض : ما لبثتم فى الدنيا إلا عشرة أيام .. ذاك أنهم لما عاينوا تلك الأهوال ذَهِلُوا عن مقدار عمرهم فى الدنيا ولم يذكروا إلا القليل .. فقالو ما عشنا إلا تلك الأيام القلائل.

والإنسان حين الشدائد والأهوال تغيب عنه أظهر الأشياء وأكثرها خطورا .. بباله.

” نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما “أى نحن أعلم بالذى يقولونه فى مدة لبثهم ..لا هم حين يقول أعدلهم رأيا وأكملهم عقلا مالبثتم إلا يوما واحدا.

ذاك أن الدنيا وإن تكررت أوقاتها .. وتعاقبت لياليها وأيامها- قصيرة المدى إذا قيست بالنظر إلى يوم القيامه .. وكأن غرضهم بذلك درء قيام الحُجَّةَ عليهم لقصر الأجل على نحو ما جاء فى قوله تعالى “ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون مالبثوا غير ساعة ” وقوله ” قال كم لبثتم فى الأرض عدد سنين .. قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادِّين “

نعم هذه الطريقه اوضح بيانا وأعظم فائدة مما هو متبع فى معظم التفاسير والله هو الموفق والمعين.

ويعتبر الإمام علاء الدين البغدادى المتوفى سنه 752هـ هو الأسبق فى إتباع هذه الطريقة فى تفسيره الخازن فجزاه الله خير الجزاء.

” فإذا نفخ فى الصور فلا أنساب بينهم ولا يتساءلون ” ثم أتبعها بآيتين تؤكدان نتائج إختبار التأمين الأخروى وذلك قوله تعالى “فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون “

“ومن خفت موازينه .. فأولئك الذين خسروا أنفسهم فى جهنم خالدون” – 102 /103 – المؤمنون.

والمعنى الإجمالى كما ذكره المختصر فى تفسير القرآن الكريم : فاذا نفخ الملَكْ الموكل بالنفخ فى القَرْن النفخة الثانية .. المؤذنه بالقيامه .. فلا أنساب بينهم يتفاخرون بها لانشغالهم بأهوال الآخرة .. ولا يسأل بعضهما بعضا لانشغالهم بما يهمهم.

فمن ثقلت موازينه برجحان حسناته على سيئاته .. فأولئك هم المفلحون بما ينالونه من مطلوبهم .. وما يُجَنَّبُونَ من مرهوبهم. ومن خفت موازينه لرجحان سيئاته على حسناته فأولئك هم الذين ضيعوا أنفسهم بفعل ما يضرها وترك ما ينفعها من الإيمان والعمل الصالح فهم فى نار جهنم ماكثون لا يخرجون منها.

ويقول الإمام أبى عبدالله القرطبى فى تفسيره لهذه الآيه:

قوله تعالى “فإذا نفخ فى الصور” المراد بهذا النفخ النفخة الثانيه..

“فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون” قال ابن عباس : لا يفتخرون بالأنساب فى الآخرة كما يفتخرون بها فى الدنيا .. ولا يتساءلون فيها كما يتساءلون فى الدنيا .. من أى قبيلة أنت.. ولا من أى نسب .. ولا يتعارفون لهول ما أذهلهم.

وعن ابن عباس أن ذلك فى النفخة الأولى .. حين يصعق من فى السموات ومن فى الأرض .. إلا من شاء الله .. فلا أنساب بينهم يومئذ .. ولا يتساءلون .. ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون .. وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون .. وسأل رجل ابن عباس عن هذه الآية وقوله ” فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون “

فقال لا يتساءلون فى النفخة الأولى .. لأنه لا يبقى على الأرض حىّ .. فلا انساب .. ولا تساؤل.

وأما قوله : ” فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ” فإنهم إذا دخلوا الجنة تساءلوا ..

وقال ابن مسعود : إنما عنى فى هذه الآية النفخة الثانية..

وقال أبو عمر زازان : دخلت على ابن مسعود فوجدت أصحاب الخير .. واليمنة قد سبقونى إليه .. فناديت بأعلى صوتى : ياعبدالله ابن مسعود من أجل أنى رجل أعجمىّ أدنيت هؤلاء وأقصيتنى ! فقال ادْنُهْ .. فدنوت حتى ماكان بينى وبينه جليس .. فسمعته يقول : يوخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة فينصب على رءوس الأولين والآخرين ثم ينادى مناد : هذا فلان بن فلان .. ومن كان له الحق فليأت إلى حقه .. فتفرح المرأة أن يدُور لها الحق على أبيها أو على أخيها أو على زوجها أو على إبنها .. ثم قرأ ابن مسعود: ” فلا أنساب بينهم ولا يتساءلون ” فيقول الرب سبحانه وتعالى”آت هؤلاء حقوقهم ” فيقول: يارب قد فنيت الدنيا فمن أين أوتيهم .. فيقول الرب للملائكه : “خذوا من حسناته فأعطو كل إنسان بقدر طَلِبَته ” فإن كان ولياّ لله فضلت من حسناته مثقال حبه من خردل فيضاعفها الله حتى يدخله بها الجنه .. ثم قرأ ابن مسعود :” إن الله لا يظلم مثقال ذره وإن تكُ حسنة يضاعفها ويؤت من لدنُهُ أجرا عظيما “

وإن كان شقيا قالت الملائكة : رب فنيت حسناته وبقى طالبون .. فيقول الله تعالى : “خذوا من أعمالهم فأضيفوها إلى سيئاته وصُكُّوا له صكا إلى جهنم “

ثم ذكر القرطبى أنه تقدم الكلام فى الآية التى بعدها .. وما بعدها وقد تقدم تفسرهما فيما سبق.

ويقول الإمام أحمد مصطفى المراغى فى تفسير- المراغى

فيقدم لتفسيره للآيات الثلات بتفسير المفردات التالية:

الصور : أى نفخت فى الأجساد أرواحها .

ولا يتساءلون : أى لا يسأل بعضهم بعضا .

موازينه : أى موزوناته وهى حسناته .

المفلحون : أى الفائزون .

خسروا أنفسهم : أى غبنوها .

ومعنى قوله تعالى ” فإذا نفخ فى الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ” أى فإذا اعيدت إلى الأرواح الأجساد حين البعث والنشور- لا تنفعهم الأنساب لأن التعاطف يزول .. والود يختفى .. لاستيلاء الدهشه والحيره عليهم.

واشتغال كل امرى بنفسه – كما جاء فى قوله تعالى :

يوم يفر المرء من أخيه .. وأمه وأبيه- وصاحبته وبنيه

“ولا يتساءلون” أى ولا يسأل القريب قريبه وهو يبصره”

لاشتغاله بأمر نفسه – كما قال تعالى” ولا يسأل حميم حميمًا” أما ما جاء فى بعض الآيات من إثبات التساؤل بينهم كقوله تعالى : ” فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ” فإنما هو عند القرار فى الجنة أو النار.

ثم أوضح فضيلة الشيخ المراغى تفسيره للآيتين التاليتين لهذه الآيه بقوله : ” ثم شرع يبن أحوال السعداء وأحوال الأشقياء حينئذ فقال الله تعالي

” فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ” أى فمن رجحت موازونات أخلاقه وأعماله فأولئك هم الفائزون بكل مطلوب والحائزون لكل مرغوب.

“ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم” أى من ثقلت سيئاته على حسناته فأولئك الذين خابوا وآبو بالصفقة الخاسرة .. إذ هم دَسَّوْا أنفسهم باسترسالهم فى الشهوات.. وفعل الموبقات .

“فى جهنم خالدون” أى مآلهم أن يمكثوا فى جهنم لا يخرجون منها ابدا .

وجاء فى تفسير الطبرى للإمام أبى جعفر محمد بن جرير الطبرى فى معنى قوله تعالى ” فإذا نفخ فى الصور فلا أنساب بينهم ولا يتساءلون”

قال : أما قوله فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فذلك فى النفخة الأولى فلا يبقى على الأرض شئ .. فلا أنساب بينهم ولا يتساءلون- وأما قوله وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون – فانهم لما دخلوا الجنة .. أقبل بعضهم على بعض يتساءلون .

ونقل عن ابن عباس قوله : فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فذلك حين ينفخ فى الصور .. فلا حىّ يبقى إلا الله .. وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون فذلك إذا بعثوا فى النفخة الثانية –

قال ابو جعفر : معنى ذلك على هذا التأويل :

فإذا نفخ فى الصور فصعق من فى السموات ومن فى الأرض .. إلا من شاء الله .. فلا أنساب بينهم يومئذ يتواصلون بها – ولا يتساءلون .. ولا يتزاورون.. – فيتساءلون عن أحوالهم وأنسابهم ..

وذكر حديث ابن مسعود الذى نقله عنه القرطبى فى تفسيره ونقلناه عنه فى الصفحات السابقه وأقوال آخرين – أما تأويل قول الله تعالى” فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون .. ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم فى جهنم خالدون “

فان ذلك معناه يقول الله تعالى ذكره : فمن ثقلت موازينه ..أى موازين حسناته .. وخفت موازين سيئاته – فأولئك هم المفلحون يعنى الخالدون فى جنات النعيم –

ومن خفت موازينه يقول : ومن خفت موازين حسناته فرجحت بها موازين سيآته .. فأولئك الذين خسروا أنفسهم- يقول: غبنوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله .. فى جهنم خالدون .. يقول فى نار جهنم.

*ويستمد الإمام الشوكانى فى تفسيره لهذه الإيات من تفسير الإمام الطبرى لها بقوله : قول الله تعالى : ” فمن ثقلت موازينه ” أى موزوناته من أعماله الصالحه “فأولئك هم المفحلون” أى الفائزون بمطالبهم المحبوبه .. الناجون من الأمور التى يخافونها –

” ومن خفت موازينه ” وهى اعماله الصالحه ” فأولئك الذين خسرو أنفسهم” أى ضيعوها وتركوا ما ينفعها – ” فى جهنم خالدون “

وقد تأكد لنا من الآيات السابقه ان القاعدة الأساسيه والوسيلة الوحيده التى شرعها الله للتمييز بين الإيمان والكفر .. والحق والباطل .. والطاعة والمعصية .. والخير والشر .. هى ميزان الأعمال الذى نص عليه إختبار الـتأمين الاخروى والتى ورد تطبيقه فى هذه الآية وفى آيات كثيره من القرآن الكريم – فكان لزاما علينا أن نرجع إلى المصادر التى أحالنا عليها الإمام القرطبى لنزداد هدى ويقينا ونورا وممن يتأمل معنا هذه الآيات أن يلاحظ ما يلى:-

1 – تماثل الآثار المترتبة على الأيتين 102و103 من سورة المؤمنون مع الآيتين 8 و9 من سورة الأعراف .

2 – تعلق الآيات الأربعه بحالات الآخره وليس بأمور الدنيا.

3 – نص آيتى سورة المؤمنون هو قوله تعالى : فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون – 102 ” ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم فى جهنم خالدون ” -103

ونص آيتى سورة الأعراف هو قوله تعالى :

” والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون” – 8

“ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بأياتنا يظلمون – 9.

قال الإمام القرطبى فى معنى قوله تعالى ” والوزن يومئذ الحق ” أن المراد بالوزن .. وزن أعمال العباد بالميزان

وقال ابن عمر : توزن صحائف أعمال العباد .. وهذا هو الصحيح وهو الذى ورد به الخبر .. والميزان : الكتاب الذى فيه أعمال الخلق- والوزن والميزان بمعنى : العدل والقضاء.

وقد أجمعت الأمة فى الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل .. واذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر وصارت هذه الظواهر نصوصا والصحيح أن الموازين تثقل بالكتب التى فيها الأعمال مكتوبة وبها تخف –

وقد روى فى الخبر مايحقق ذلك وهو ” أن ميزان بعض بنى آدم كاد يخف بالحسنات فيوضع فيه رق مكتوب فيه” لا اله إلا الله ” فيثقل فعُلِمَ أن ذلك يرجع إلى وزن ما كتب فيه الأعمال لا نفس الأعمال .. وأن الله سبحانه يخفف الميزان إذا أراد .. ويثقله إذا أراد .. بما يوضع فى كفتيه من الصحف التى فيها الأعمال .

وروى أن رجلا قال لإبن عمر : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى النجوى ؟ يريد مناجاة الله تعالى للعبد يوم القيامه – قال سمعته يقول : لا يُدْنى المؤمن من ربه يوم القيامه .. حتى يضع عليه كَنَفَهُ فَيُقَرِّره بذنوبه .. فيقول هل تعرف .. فيقول أى ربِّ اعرف قال : فإنى قد سترتها عليك فى الدنيا .. وإنى أغفرها لك اليوم .. فيُعْطى صحيفة حسناته – وأما الكفار والمنافقون .. فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله .. فقوله فيعطى صحيفة حسناته دليل على أن الأعمال تكتب فى الصحف وتوزن .

ويتفق الإمام القرطبى مع الإمامين البغوى والبغدادى فى ما ذهب إليه جمهور المفسرين فى أن المراد بالوزن .. وزن الأعمال بالميزان .

روى عن ابن عباس : توزن الحسنات والسيئات فى ميزان له لسان وكفتان فأما المؤمن .. فيؤتى بعمله فى أحسن صورة .. فيوضع فى كفة الميزان .. فتثقل حسناته على سيئاته .

فذلك قوله تعالى ” فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون “

ويؤتى بعمل الكافر فى أقبح صوره فيوضع فى كفة الميزان فيخف وزنه حتى يقع فى النار

قال الرازى : إنهم لا يسألون عن الأعمال لأن الكتب قد أحصتها .. لكنهم يسألون عن الدواعى التى دعتهم إلى الأعمال .. وعن الصوارف التى صرفتهم عنها .. أى أنهم يسألون عن الموانع التى حالت بينهم .. وبين عمل ما طِلُب منهم عمله أو فعل ما طِلب إليهم تركه .. وما كنا غائبين عنهم فى وقت من الأوقات ولا حال من الأحوال .. بل كنا معهم نسمع ما يقولون .. ونبصر ما يعملون .. ونحيط علما بما يسرون وما يعلنون.

قال حذيفة جبريل صاحب الميزان يوم القيامه .. فيقول له ربه عز وجل – زن بينهم – ورُدَّ من بعضهم على بعض

قال : وليس ثمّ ذهب ولا فضه فيرد على المظلوم من الظالم فإن كان للظالم حسنات أخذ من حسناته فردّ على المظلوم

وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتحمل على الظالم فيرجع الرجل وعليه مثل الجبل .

فان قلت أليس الله عز وجل يعلم مقادير أعمال العباد .. فما الحكمه فى وزنها .. ؟ قلت فى وزن الأعمال حِكَم .. منها إظهار العدل .. وأن الله عز وجل لا يظلم عباده .. ومنها امتحان الخلق بالإيمان بذلك فى الدنيا وإقامة الحجة عليهم فى العقبى ومنها : تعريف العباد مالهم من خير وشر .. وحسنة وسيئة ومنها أنه سبحانه وتعالى أثبت أعمال العباد فى اللوح المحفوظ ثم فى صحائف الحفظه الموكلين ببنى آدم من غير جواز النسيان عليه سبحانه وتعالى .. ومن أدلة الثبوت التى سجَّلها الله سبحانه وتعالى فى القرآن الكريم والتى أشرنا إليها فيما سبق والتى تدق جرس الإنذار لكل إنسان من ذرية آدم وأنه لايمكنه الفرار من أعماله التى سوف يحاسب عليها بعد البعث والنشور – قوله تعالى ” وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا .. إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا .. من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها.. ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا “13/15 – الأسراء .

وليس أمام الإنسان بعد هذا البيان حجة أو دليل ينجيه من عذاب الله يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .

ومن الأدلة التطبيقيه القاطعه البرهان والدليل على سعة رحمة الله بعباده .. وبعظمة قدر الإيمان التى لا يعادلها شئ آخر .. من ذلك ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يصاح برجل من أمتى يوم القيامه على رؤوس الخلائق – وفى رواية إن الله عز وجل سيخلص رجلا من أمتى على رءوس الخلائق يوم القيامه – فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل مثل مد البصر .. ثم يقول له .. الله تبارك وتعالى هل تنكر من هذا شيئا ؟ .. فيقول لا يارب .. فيقول أظَلَمَتْك كَتَبَتى الحافظون ؟ فيقول لا يارب .. فيقول أفلك عذر ؟ ألك حسنه ؟ .. فيقول : لا يارب ..

فيقول الله تبارك وتعالى .. بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم .. فيخرج الله له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله .. واشهد أن محمدا عبده ورسوله .. فيقول احضر وزنك ..

فيقول : يارب ما هذه البطاقه مع هذه السجلات

فيقال : فانه لا ظلم عليك اليوم .. فتوضع السجلات فى كفة والبطاقه فى كفه .. فطاشت السجلات وثقلت البطاقه .. ولا يثقل مع اسم الله شئ .

قال الإمام المراغى فى تفسيره

والذى عليه المعول فى الإيمان بعالم الغيب .. أن كل ما ثبْت من أخباره فى الكتاب والسنه فهو حق لا ريب فيه .. فنؤمن به ولا نحكم رأينا فى كيفيته .. فنؤمن بأن فى الآخرة وزنا للأعمال .. بميزان يليق بعالم الآخرة .. توزن به الأعمال والإيمان والأخلاق ولا نبحث عن كيفيته ..

أما إختبار التأمين الأخروى فقد شرعه الله بالآيتين 38 و39 من سورة البقره ونصهما :

” قلنا إهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون – 38 “.

” والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون – 39 ” .

ويبدأ تطبيقهما من تاريخ نزولهما على أبينا آدم مقترنا بالأمر بهبوطه عليه السلام إلى الأرض وتنتهى مدة تطبيق أحكامهما بالنسبة لكل أحد .. من آدم عليه السلام وذريته بوفاته وتنتهى المدة الكليه لهذا التأمين إعتبارا من تاريخ النفخ فى الصور النفخه الأولى .. وتعتبر الآيتان – 102 و 103 من سورة المؤمنون

تطبيقا عمليا لذلك الإختبار شأن آيات الإختبار الأخرى المشابهه الوارده فى سور أخرى .

أى نص الآيتين/103/102 ونصهما :-

قال تعالى : فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون .. ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم فى جهنم خالدون – 102/103 – المؤمنون .

” ويوم ينفخ فى الصور ففزع من فى السماوات ومن فى الأرض إلا من شاء الله وكل أَتَوَه داخرين – 87 – النمل .

والمعنى : كما جاء فى المختصر فى تفسير القرآن الكريم :

واذكر أيها الرسول – يوم ينفخ الملك الموكل بالنفخ فى القرن النفخه الثانيه ففزع من فى السماوات ومن فى الأرض إلا من استثناه الله من الفزع تفضلا منه .. وكل من مخلوقات الله يأتونه فى ذلك اليوم مطيعين ذليلين أى صاغرين .

وقال الإمام أحمد مصطفى المراغى فى تفسيره :

لقول الله تعالى ” ويوم ينفخ فى الصور ففزع من فى السماوات ومن فى الأرض إلا من شاء الله ” أى واذكر أيها الرسول هول .. يوم ينفخ فى الصور .. إذ يفزع من فى السماوات ومن فى الأرض .. لما يعتريهم من الرعب حين البعث والنشور .. بمشاهدة الأهوال الخارقة للعادة فى الأنفس والآفاق إلا من ثبَّت الله قلبه .

ويرى أكثر أهل العلم أن هناك نفختين : نفخة الفزع المذكوره فى هذه الآية – وهى نفخة الصعق المذكورة فى قوله تعالى :

” ونفخ فى الصور فصعق من فى السماوات ومن فى الأرض ” – لأن كلا الأمرين : الفزع – و الخوف .. والصعق وهو الموت .. يحصلان بها .. ونفخة البعث المذكورة فى قوله تعالى :

” ونفخ فى الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون “

” وكل أتوه داخرين ” أى وكل هؤلاء الفزعين المبعوثين حين النفخه .. يحضرون الموقف بين رب العزة مطعيين ذليلين.. للسؤال .. والجواب .. والمناقشه والحساب .. أذلاء صاغرين لا يتخلف أحد عن أمره .

ثم علل كل من النفخ فى الصور .. والقيام للحساب .. ومجازاة العباد على أعمالهم .. بقوله تعالى :

” أنه خبير بما تفعلون ” أى أنه جل جلاله ذو علم ..وخبرة بما يفعل عباده من خير وشر .. وطاعة ومعصيه ..

ثم بين ركنى إختبار التأمين الأخروى أو كفتى الحساب والميزان أو المثل التطبيقى للإختبار الذى يتكرر كثيرا فقال تعالى :

” من جاء بالحسنة فله خير منها ” أى من آمن بالله وعمل صالحا .. فله على ذلك .. جزيل الثواب من عند ربه فى جنات النعيم .. يأمن من الفزع الأكبر يوم القيامه ..

” ومن جاء بالسيئه فكبت وجوههم فى النار ” أى ومن أشركوا بالله وعملوا السيئات يُكَبَّون على وجوههم فى جهنم ويطرحون فيها .

” هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ” ؟ أى يقال لهم : هل هذا إلا جزاء ما كنتم تعملون فى الدنيا .. مما يسخط ربكم – ويغضبه منكم من شرك به ومعصية له .

” ونفخ فى الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون – 51 “

ويسبق هذه الآيه .. آيتين يبين الله لنا فيهما حال الناس قبل النفخة الأولى وهى نفخة الصعق يقول عز وجل فيهما :

” وما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون – 49 “

” فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون – 50 “

ثم يتبعها بثلاث آيات يصف فيها حال الناس بعد النفخة الثانيه وهى نفخة البعث فيقول الله سبحانه وتعالى :

” قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا .. هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون -52 “

” إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون – 53″

” فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون – 54 “

والمعنى :

ما ينتظر هؤلاء المكذبون بالبعث المُسَتْبعدُون له – إلا وتأتيهم بغته .. النفخة الأولى .. حين ينفخ إسرافيل فى الصور .. فتبغتهم هذه الصيحه وهم فى مشاغلهم الدنيوية من بيع وشراء .. وسقى ورعى وغيرها من مشاغل الدنيا .

روى أبى هريرة رضى الله عنه .. أن النبى صلى الله عليه وسلم قال – ولتقومن الساعة .. وقد نشر الرجلان ثوبا بينهما .. فلا يتبايعانه ولا يطويانه – ولتقومن الساعة .. وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه – اللقحه الناقة قريبة العهد بالنتاج ..

ولتقومن الساعه وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه .. ولتقومن الساعة .. وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها – فهم لا ينتظرون بحلول العذاب بهم إلا نفخة واحدة فى الصور .. بها يموت أهل الأرض جميعا .. وتأخذهم بغته وهم يتنازعون فى أمور معايشهم لا يخطر ببالهم مجيئها ثم بين سرعة حدوثها أنها كلمح البصر أو هى أقرب فقال : فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون .. فلا يستطيع أحدهم أن يوصى فى أمواله أحدا – فلا يمهلون لذلك .. بل يموتون فى أسواقهم .. وأماكنهم .. ولا يستطيع من كان منهم بعيدا عن أهله ومنزله أن يرجع إليهم بل يموتون حيث كانوا ويرجعون إلى ربهم .

ثم أخبر الله سبحانه وتعالى عما يحدث بعد ذلك فقال :

” ونفخ فى الصور فإذا هم من الأحداث إلى ربهم ينسلون “

ونفخ فى الصور النفخة الثانيه وهى نفخة البعث والنشور فإذا هم يخرجون من قبورهم .. يسرعون للقاء ربهم للحساب والجزاء – وبين النفختين أربعون سنه .

فإذا هم من الأجداث – أى القبور .. يخرجون منها أحياء اذا قيل للولد – نسل – لخروجه من بطن أمه .

وعندما يعاين غير المؤمنين القيامة وأهوالها .. وعذابها .. ودرجاتها .. وأشكالها المختلفه .. فيصير عذاب القبر فى جنبها كالنوم .. فقالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا .. ثم قالوا ” هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ” أقروا حين لا ينفعهم الإقرار – حينئذ يجيبهم المؤمنون : هذا الذى ترون ما وعد به الرحمن وصدق فى الإخبار به المرسلون الذين أتونا بوعد الله ووعيده – فما كانت إعادتهم أحياء بعد مماتهم إلا نفخة واحدة فإذا هم مجتمعون لدينا .. قد اُحْضِرُوا جميعا للعرض والحساب لم يتخلف منهم أحد

” فاليون لا تظلم نفس شيئا .. ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون “

ففى هذا اليوم – أى يوم القيامه يكون الحكم بالعدل فلا تظلم نفس شيئا بزيادة سيئاتكم أونقصان حسناتكم .. وإنما توفون جزاء ماكنتم تعملون فى الحياة الدنيا .

” ونفخ فى الصور فصعق من فى السماوات ومن فى الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون – 68 “

ثم أتبعها بآيتين بين فيهما تجهيز وإحضار كل ما يتطلبه الفصل فى الخصومات .. من إحضار صحائف الأعمال والمتخاصمين .. ومجئ النبيين والشهداء .. والقضاء بين الناس بالحق والعدل .. وإعطاء كل نفس ما تستحقه كاملا غير منقوص كما فى قول الله عز وجل : – ” وأشرقت الأرض بنور ربها .. ووضع الكتاب .. وجئ بالنبيين والشهداء .. وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون – 69 / 70 “

والمعنى : المختصر :

يوم ينفخ الملك .. الموكل بالنفخ فى ” القرن ” يموت كل من فى السماوات .. ومن فى الأرض – ثم ينفخ فيه الملك مرة ثانيه للبعث .. فإذا جميع الأحياء قائمون ينظرون ما الله فاعل بهم – وأضاءت الأرض لما تجلى رب العزة للفصل بين العباد .. ونشرت صحف أعمال الناس – وجئ بالأنبياء .. وجئ بأمة محمد صلى الله عليه وسلم لتشهد للأنبياء على أقوامهم .. وحكم الله بين جميعهم بالعدل .. وهم لا يظلمون فى ذلك اليوم .. فلا يزاد إنسان سيئه .. ولا ينقص حسنة – وأكمل الله جزاء كل نفس – خيرا كان عملها أو شرا .. والله أعلم بما يفعلون .. لا يخفى عليه من أفعالهم .. خيرها وشرها شئ .. وسيجازيهم فى هذا اليوم على أعمالهم .

والمعنى الإجمالى :

قوله تعالى ” ونفخ فى الصور فصعق من فى السماوات ومن فى الأرض ” والصور هو القرن الذى ينفخ فيه إسرافيل وقد تقدم بيان معناه أكثر من مرة .. ومعنى صعق : زالت عقولهم – فخروا مغشيا عليهم – فماتوا من الفزع – ثم نفخ فيه أخرى – أى نفخ إسرافيل فى الصور مرة أخرى وهى النفخه الثانيه ” فإذا هم قيام ينظرون ” يعنى الخلق كلهم قيام على أرجلهم أحياء – ينتظرون ما يقال لهم .. أى فإنما هما نفختان .. يموت الخلق فى الأولى منهما .. ويحيون فى الثانيه بعد أن كانوا عظاما ورفاتا .

” وأشرقت الأرض بنور ربها ” أى أضاءت الأرض وأنارت حين تجلى الله تبارك وتعالى لفصل القضاء بين خلقه بما أقامه الله من العدل بين أهلها .. وما قضى به من الحق فيهم .. فالعدل نور والظلم ظلمات .

” ووضع الكتاب ” أى كتاب الأعمال – وقيل اللوح المحفوظ لأن فيه أعمال جميع الخلق من المبدأ إلى المنتهى .

وقيل : وضعت صحائف الأعمال بأيدى العاملين –

قال تعالى ” وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا – إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا – 13/14 الإسراء – أى وكل إنسان جعلنا عمله الصادر عنه .. ملازما له .. ملازمة القلادة للعنق .. لا ينفصل عنه حتى يحاسب عليه .. ونخرج له يوم القيامة كتابا فيه جميع ما عمل من خير وشر يجده أمامه مفتوحا مبسوطا .. ونقول له يومئذ .. إقرأ .. أيها الإنسان .. كتابك .. وتول حساب نفسك على أعمالك .. كفى بنفسك يوم القيامة محاسبا لك .. أى وضع الكتاب للحساب .

وقال تعالى ” ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه .. ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .. ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا – 49 /الكهف – أى ووضع كتاب الأعمال .. فَمِنْ آخذٍ كتابه بيمينه .. ومن آخذٍ كتابه بشماله .. وترى – أيها الإنسان – الكافرين خائفين مما فيه – لأنهم يعلمون ما قدموا فيه .. من الكفر .. والمعاصى .. ويقولون : يا هلاكنا .. يا مصيرنا .. ما لهذا الكتاب لا يترك صغيرة ولا كبيرة .. من أعمالنا إلا حفظها وعدها .. ووجدوا ماعملوا فى حياتهم الدنيا من المعاصى مكتوبا مثبتا .. ولا يظلم ربك – أيها الرسول – أحدا فلا يعاقب أحدا من غير ذنب .. ولا ينقص المطيع من أجر طاعته شيئا .

” وجئ بالنبيين : ليكونوا شهداء على أممهم .. فسئلوا عما أَجَابتْهُم به أُمُمُهُم . قال ابن عباس يعنى الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرساله .. وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل هم الحفظه من الملائكة الذين يقيدون أعمال العباد خيرها وشرها .. قال تعالى ” وجاءت كل أمة معها سائق وشهيد .. فالسائق يسوق للحساب .. والشهيد يشهد عليها .

وقضى بينهم بالحق : أى بالعدل والصدق .

وهم لا يظلمون : أى لا يزاد فى سيئاتهم ولا ينقص من حسانتهم .

ووفيت كل نفس ما عملت : أى أعطيت كل نفس جزاء ما عملت من خير وشر .

وهو أعلم بما يفعلون : أى أنه سبحانه عالم بأفعالهم لا يحتاج إلى كاتب ولا حاسب ولا شاهد .. فلا يفوته شئ من أعمالهم .

” ونفخ فى الصور ذلك يوم الوعيد ” 20 .

وذكر فى الآيات الأربعة السابقه على هذه الآية – المراحل السابقه على النفخ فى الصور – وذكر ماهو مقبل عليه فى الآيات الثلاث التالية لها :

فقال الله تعالى ” ولقد خلقنا الإنسان .. ونعلم ما توسوس به نفسه .. ونحن أقرب إليه من حبل الوريد – 16 – إذ يَتَلَقَّى المُتَلقِّيان عن اليمين وعن الشمال قعيد – 18 – ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد – 18 – وجاءت سَكْرَةُ الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد – 19 – ونفخ فى الصور ذلك يوم الوعيد -20 – ثم قال :-

– وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد – 21 – لقد كنت فى غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد – 22 – وقال قرينه هذا مالدى عتيد – 23 .

المعنى :

أ – تفسير المفردات للإمام المراغى رحمه الله .

الوسوسه : الصوت الخفى – ومنه وسواس الحلى – والمراد به هنا : حديث النفس وما يخطر بالبال من شتى الشئون .

حبل الوريد : عرق كبير فى العنق – وللإنسان وريدان مكتنفان بصفحتى العنق .. فى مقدمهما متصلان بالوتين .. يَرِدَانِ من الرأس إليه .

قعيد : بمعنى مقاعد – كالجليس بمعنى المجالس .

الرقيب : مَلَكْ .. يرقب قوله ويكتبه .. فإن كان خيرا فهو صاحب اليمين .. وإن كان شرا فهو صاحب الشمال .

عتيد : أى مهيأ لكتابة ما يؤمر به من الخير والشر .

سكرة الموت : شدته .

بالحق : بحقيقة الحال .

تحيد : أى تميل وتعدل .

يوم الوعيد : أى يوم انجاز الوعيد .

السائق والشهيد : ملكان .. أحدهما يسوق النفس إلى أمر الله .. والآخر يشهد عليها بعملها .

الغطاء : الحجاب المغطى لأمور العباد – وهو الغفلة .. والانهماك فى اللذات وقصر النظر عليها .

حديد : أى نافذ لزوال المانع للإبصار .

ب – المعنى الإجمالى حسب ما ذكره – المختصر فى تفسير القرآن الكريم –

يخبرنا الحق تبارك وتعالى بقوله ما معناه : ولقد خلقنا الإنسان .. ونعلم ما تحدث به نفسه من خواطر وأفكار .. ونحن أقرب إليه من العرق الموجود فى العنق .. المتصل بالقلب ..إذ يتلقى المتلقيان عمله .. أحدهما قعيد عن يمينه والثانى قعيد عن شماله – ما يقول من قول إلا لديه ملك رقيب على ما يقوله حاضر .

وجاءت شدة الموت بالحق الذى لا مهرب منه .. ذلك ما كنت – أيها الإنسان الغافل – تتأخر عنه وتفر منه .

ونفخ الملك الموكل بالنفخ فى القرن .. النفخة الثانيه – ذلك يوم القيامه .. يوم الوعيد للكفار والعصاة بالعذاب .. وجاءت كل نفس معها ملك يسوقها .. وملك يشهد عليها بأعمالها .

ويقال لهذا الإنسان المسَوُق .. لقد كنت فى الدنيا فى غفلة عن هذا اليوم بسبب اغترارك بشهواتك .. ولذاتك .. فكشفنا عنك غفلتك بما تعاينه من العذاب والكرب .. فبصرك اليوم حادُ .. تدرك به ما كنت فى غفلة عنه .

وقال قرينه الموكل عنه من الملائكة – هذا مالدىَّ من عمله حاضر .. دون نقص ولا زيادة .

ج – المعنى التفصيلى :

قوله تعالى : – ولقد خلقنا الإنسان أى – الناس – والمراد بالإنسان : الجنس – وقد بينا فيما سبق كيف خلق الله أول الخلق من البشر – آدم عليه السلام – وخلق من آدم – حواء – زوجة له خلقا متكاملا بغير مثال سابق .. قابل للتكليف بمجرد نفخ الروح فيه .. ثم انتقل التناسل عن طريق التزاوج والتلقيح الرحمى الذى كان سببا فى التوالد والتكاثر وبث ذرية آدم حتى يوم القيامه – وهو المراد بكلمة الناس .

والمراد بقوله: – ونعلم ما توسوس به نفسه – أى ما يختلج فى سره .. وقلبه .. وضميره .. أى نعلم ما يُخْفى ويكن فى نفسه أى ما يحدث قلبه فلا تخفى علينا سرائره وضمائره .

– ونحن أقرب إليه من حبل الوريد – أى نحن أعلم به منه .. وذلك بيان لكمال علم الله – فالوريد هو العرق الذى يجرى فيه الدم – ويصل إلى كل جزء من أجزاء البدن وهو بين الحلقوم والعلياوين – ومعنى الآية أن أجزاء الإنسان وأبعاضه .. يحجب بعضها بعضا ولا يحجب عن علم الله شئ .. وقيل نحن أعلم بما توسوس به نفسه من حبل وريده الذى هو من نفسه لأنه عرق يخالط القلب .. فعلم الرب أقرب إليه من علم القلب .. وقيل يحتمل أن يكون المعنى : ونحن أقرب إليه بنفوذ قدرتنا فيه .. ويجرى فيه أمرنا .. كما يجرى الدم فى عروقه .

– إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد – أى نحن أقرب إليه من حبل وريده حين يتلقى المتلقيان وهما الملكان الموكلان به – أى نحن أعلم بأحواله فلا نحتاج إلى ملَك يخبر – ولكنهما وكِّلا به إلزاما للحجه .. وتوكيدا للأمر عليه –

وذكر القرطبى قول الحسن ومجاهد وقتاده : المتلقيان ملكان يتلقيان عملك : أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك .. والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك .. وقول الحسن : حتى إذا متّ طويت صحيفة أعمالك .. وقيل لك يوم القيامه – إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا – عَدَل الله عليك من جعلك حسيب نفسك .. وذِكِر قول مجاهد : وكل الله بالإنسان مع علمه بأحواله ملكين بالليل وملكين بالنهار .. يحفظان عمله .. ويكتبان أثره إلزاما للحجه .. أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات والآخر عن شماله يكتب السيئات فذلك قوله تعالى – عن اليمين وعن الشمال قعيد – وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال – كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يساره وكاتب الحسنات آمين على كاتب السيئات – فإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال .. دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر –

وقعيد : بمعنى قاعد .. كالسميع .. والعليم ..والقدير .

وقوله – ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد – أى لا يلفظ بكلمة من فيه إلا لديه ملك حاضر معه مراقب لأعماله – يكتب ما فيه ثوابه وعقابه – وقيل يكتب عليه كل ما يتكلم به – وقيل يكتب على الإنسان كل شئ حتى الأنين فى مرضه .

وتحتوى كتب التفسير الكثير من الروايات عن فيض رحمة الله التى وسعت كل شئ : منها ما ذكره القرطبى رواية عن أبى هريرة وأنس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : – ما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا .. فيرى الله فى أول الصحيفة خيرا .. وفى آخرها خيرا إلا قال الله تعالى لملائكته اشهدوا أنى قد غفرت لعبدى ما بين طرفى الصحيفة .

ومنها ما روى من حديث أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال – إن الله وكل بعبده ملَكَين يكتبان عمله .. فإذا مات قالا : ربنا قد مات فلان .. فأذن لنا أن نصعد إلى السماء .. فيقول الله تعالى : إن سمواتى مملوءة من ملائكتى يسبحوننى – فيقولان ربنا نقيم فى الأرض – فيقول الله تعالى إن أرضى مملوءة من خلقى – يسبحوننى .. فيقولان يارب فأين نكون ؟ فيقول الله تعالى : كونا على قبر عبدى فكبرانى وهللانى وسبحانى واكتبا ذلك لعبّدى إلى يوم القيامه .

قوله تعالى – وجاءت سكرة الموت بالحق – أى غمرته وشدته فالإنسان مادام حيا .. تكتب عليه اقواله وأفعاله ليحاسب عليها – ثم يجيئه الموت .. وهو ما يراه عند المعاينه .. من ظهور الحق – فيما كان الله تعالى وعده وأوعده . وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال :إن العبد الصالح ليعالج الموت وسكراته .. وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض .. وتقول : السلام عليك تفارقنى .. وأفقارقك إلى يوم القيامة .

وقيل : – وجاءت سكرة الموت – أى غمرته وشدته التى تغشى الإنسان وتغلب على عقله – بالحق أى بحقيقة الموت .. وقيل بالحق من أمر الآخرة – حتى يتبينه الإنسان ويراه بالعيان . وقيل بما يئول إليه أمر الإنسان من السعادة والشقاوة . وقيل : لما بين الله سبحانه وتعالى أن جميع أعمال العباد محفوظة مكتوبة – ذكر بعد ذلك ما ينزل بهم من الموت .. وشدته وسكرته .. وغمرته التى تغشى الإنسان وتغلب عقله – ومعنى بالحق : أنه عند الموت يتضح له .. ويظهر له صدق ما جاءت به الرسل من الإخبار بالبعث .. والوعد والوعيد .

ويقال لمن جاءته سكرة الموت .. ذلك هو الموت الذى كنت عنه تميل وقيل تفر وتهرب – قد جاءك فلا محيد عنه ولا مناص .. ولا فكاك منه ولا خلاص .

قوله الله تعالى – ونفخ فى الصور – أى نفخة البعث وهى النفخة الآخرة .. ذلك يوم الوعيد .. وهو اليوم الذى وعد الله الكفار أن يعذبهم فيه .. وجاءت فى هذا اليوم كل نفس ربها .. ومعها سائق يسوقها إليه وشهيد يشهد عليها بما عملت فى الدنيا من خير أو شر.

قوله تعالى – لقد كنت فى غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك – أى لقد كنت فى غفلة من هذا اليوم فى الدنيا – فكشفنا عنك غطاءك – أى الذى كان على قلبك وسمعك وبصرك فى الدنيا .

وقال ابن عباس : إن المراد به المشركون : أى كانوا فى غفلة من عواقب أمورهم – وذكر القرطبى أن أكثر المفسرين قالوا : إن المراد به البر والفاجر وهو إختيار الطبرى .. وقيل : أى لقد كنت أيها الإنسان فى غفلة عن أن كل نفس معها سائق وشهيد – لأن هذا لا يعرف إلا بالنصوص الإلهية .

– فبصرك اليوم حديد – أى قوى .. ثابت .. نافذ .. وقيل المراد به .. بصر العين وهو الظاهر – أى بصر عينك اليوم حديد .. أى قوى .. نافذ .. يرى ما كان محجوبا عنك .. وقال مجاهد : – فبصرك اليوم حديد – يعنى نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن سيئاتك وحسناتك .

وقال قرينه هذا مالدى عتيد – يعنى الملك الموكل به – هذا ماعندى من كتاب عمله مُعَد محفوظ .. وقيل : يقول : هذا الذى وكلتنى به من بنى آدم قد أحضرته وأحضرت ديوان عمله .

قول الله تبارك وتعالى فى سورة الحاقه : – فإذا نفخ فى الصور نفخة واحدة -13-

الحاقة : هى القيامة .. وسميت حاقه من الحق الثابت .. يعنى أنها ثابتة الوقوع لا ريب فيها .. وقيل أنها سميت بهذا الأسم لأن فيها تحقيق الأمور فتعرف على حقيقتها وفيها يحق الجزاء على الأعمال .. وألحق الله بهذا الأسم الإستفهام عن حقيقته .. فقال تعالى ماالحاقة ؟ .. وما أدراك ماالحاقه ؟ ..أى – أى شئ هى الحاقه ؟ فهى خارجة عن دائرة علوم المخلوقات .. لعظم شأنها .. ومدى هولها وشدتها .. فلا تبلغها دراية أحد ولا وهمه .. فكيفما قدرت حالها .. فهى فوق ذلك وأعظم .. وقيل سميت بذلك : لأنها أحقت لأقوام الجنة وأحقت لأقوام النار وجميع أحكام القيامه صادقة .. واجبة الوقوع والوجود فلن تستطيع التعرف على حقيقتها والعلم بها إذا لم تشاهدها وتعاينها وتعلم ما فيها من الأهوال .. فكأنها خارجة عن دائرة علم المخلوقين – وقد اقتضى ذلك أن نبدأ بشرح المفردات كما ذكرها الشيخ أحمد المراغى فى تفسيره :

وقد بدأ بالآيات الإثنى عشر من السورة السابقة لآية النفخ فى الصور وهى قول الله تعالى :

– الحاقة -1- ماالحاقة -2- وما أدراك ما الحاقة -3- كذبت ثمود وعاد بالقارعه -4- فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية -5- وأما عاد فأهلكوا بريح صَرْصَر عاتية -6- سخرها عليهم سبع ليال .. وثمانية أيام خُسُومًا فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعْجازُ نخل خاوية -7- فهل ترى لهم من باقية -8- وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة -9- فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية -10- إنا لما طغى الماء حملناكم فى الجارية -11- لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية -12 –

أ – شرح المفردات :

الحاقة : من حق الشئ .. إذا ثبت ووجب – أى الساعة الواجبة .. الوقوع .. الثابتة المجئ .. وهى يوم القيامة

ماالحاقة : أى : أىُّ شئ هى ؟ تفخيما لشأنها وتعظيما لهولها .

وما إدراك ماالحاقة : أى : أىّ شئ أعلمك ماهى ؟ فلا علم لك بحقيقتها إذ بلغت من الشدة والهول أن لا يبلغها علم المخلوقين .

والقارعه : هى الحاقة التى تقرع قلوب الناس بالمخافة والأهوال وتقرع الأجرام بالإنفطار والإنتشار وسميت قارعة لشدة هولها إذ القرع ضرب الشئ بشئ .

والطاغية : هى الواقعة التى جاوزت الحد فى الشدة والقوة كما قال – إنَّا لماَّ طَغَى المَاء – أى جاوز الحد .. والمراد بها الصاعقة .

والصرصر : الشديد الصوت التى لها صرصرة .

عاتية : أى بالغة منتهى القوة والشده .

سخرها عليهم : أى سلطها عليهم .

حسوما : أى متتابعة .. واحدها حاسم .. والحسم : القطع والاستئصال .

وصرعى : واحدها صريع .. أى ميت .

وأعجاز : واحدها عجز .. وهو الأصل .

وخاوية : أى خالية الأجواف لا شئ فيها .

والبقاء : البقاء .

والمؤتفكات : وهى قرى قوم لوط جعل الله عاليها سافلها بالزلزلة .

والخاطئه : الخطأ .

رابيه : من ربا الشئ إذا زاد .. أى الزائدة فى الشدة .

وطغى الماء : تجاوز حده وارتفع .

حملناكم : أى حملنا آبائكم .. وأنتم فى أصلابهم .

والجارية : السفينة التى تجرى فى الماء .

وتعيها : أى تحفظها – وتقول لكل ما حفظته فى نفسك : وعيته – وتقول لكل ما حفظته فى غير نفسك : أوعيته .

ب – المختصر التفسيرى :

افتتح المختصر تفسيره لهذه السورة الكريمه ببيان مقاصدها وأوضح أنه : حتمية وقوع القيامه .. تأكيدا لصدق القرآن ووعدا للمؤمنين بالفرحه .. ووعيدا للمكذبين بالحسرة ثم بدأ بالآية الأولى فقال : يذكر الله ساعة البعث التى تحق على الجميع .. ثم يعظم أمرها بهذا السؤال : أى شئ هى الحاقة ؟ وما أعلمك ماهذه الحاقة؟

كذبت ثمود قوم صالح .. وعاد قوم هود بالقيامه التى تقرع الناس من شدة أهوالها . فأما ثمود فقد أهلكهم الله بالصيحة .. التى بلغت الغاية فى الشدة والهول .

وأما عاد .. فقد أهلكهم الله بريح شديدة البرد قاسية بلغت الغاية فى القسوة عليهم – أرسلها الله عليهم مدة سبع ليال وثمانية أيام .. تفنيهم عن بكرة أبيهم فترى القوم فى ديارهم .. هلكى مصروعين فى الأرض كأنهم بعد إهلاكهم .. أصول نخل ساقطة على الأرض باليه فهل ترى لهم نفسا باقيه بعد ما أصابهم من العذاب ؟ وجاء فرعون ومن قبله من الأمم والقرى التى عذبت .. بقلب عاليها سافلها – وهم قوم لوط .. بالأفعال الخاطئه من الشرك والمعاصى – فعصى كل منهم رسوله الذى بعث إليهم وكذبوه .. فأخذهم الله أخذة زائدة على مايتم به هلاكهم .. إنا لما تجاوز الماء حده فى الإرتفاع .. حملنا من كنتم فى أصلابهم فى السفينة الجارية التى صنعها نوح عليه السلام بأمرنا فكان حَمْلا لكم – لنجعل السفينة وقصتها موعظة يُستَدَل بها على إهلاك أهل الكفر .. وإنجاء أهل الإيمان .. وتحفظها أذن حافظه لما تسمع .

ج – المختصر الإجمالى :

* لحظة تأمل : أستسمحك أخى الزائر فى أن تشاركنى فى اختيار الطريقة التى نتأمل بها هذه الفقرة وجميعها متعلق بيوم القيامة – وسورة الحاقة يبين الله لنا فيها جميع الأحوال التى سنواجهها فى هذا اليوم والمراحل التى سنمر بها وما يترتب على أعمالنا فى الدنيا من ثواب وعقاب – ولوحظ التكرار فى المعانى عند معظم المفسرين وأن تفسيرهم لآيات القرآن الكريم يأتى متماثلا .. أو متقاربا .. أو متشابها – والقارئ المعاصر يحتاج إلى جميع المعلومات والحقائق الواردة فى القرآن الكريم والسنة النبويه وأقوال الصحابه والتابعين فى أسلوب شامل لجميع الحقائق واضح البيان خاليا مما شابه التفسير اللغوى للكلمة شعرا .. ونثرا وأسماء من تنسب إليهم بعض المرويات مع الحرص الكامل على نقل كافة المعانى والحقائق المتعلقه بالقيامة إلى الناس لحاجتهم الشديدة إلى التعرف عليها والإحاطة بها والإستفادة منها – وقد لاحظتا أن عنوان هذة السورة يبين أنها مكية – وأن آياتها إثنتان وخمسون آيه ومائتنان وست وخمسون كلمة وألف وأربع وثلاثون حرفا .. وفى ذلك دلالة على إهتمام الإسلام بأحوال الآخره منذ بدايته .. فأرجو أن يكون إختيار هذه الطريقه التى تستهدف رضاء الله والفوز بجنته والنجاه من عذابه فى الآخره .. ملائما لذلك مع تقديرنا التام وصادق دعائنا لهم لصعوبة هذا الإحصاء فى الزمن السابق لعصر الكمبيوتر .

وقد وقع الإختيار على تفسير – الخازن – لعلاء الدين البغدادى المتوفى سنة 725 هـ والإمام أبى محمد الحسين الفراء البغوى المتوفى سنة 516 هـ لتفسير هذه السورة .

* قول الله عز وجل : – الحاقة – يعنى القيامه : سميت حاقه من الحق . – الثابت – يعنى أنها ثابتة الوقوع لا ريب فيها – وقيل لأن فيها تحقيق الأمور .. فتعرف على الحقيقه .. وفيها يحق الجزاء على الأعمال .. أى يجب – ماالحاقة ؟ – أى : أى شئ هى الحاقة – وما أدراك ما الحاقة – أى إنك لا تعلمها .. إذ لم تعاينها .. ولم تر ما فيها من الأهوال – كذبت ثمود وعاد بالقارعه – أى بالقيامه .. سميت قارعه لأنها تقرع قلوب العباد .. وقيل كَذَّبَت بالعذاب الذى أوعدهم نَبِيهَّمْ حتى نزل بهم .. فقرع قلوبهم .

– فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية – أى بطغيانهم وكفرهم .. وقيل بالصيحة الطاغية وهى التى جاوزت مقادير الصياح فأهلكتهم .

– وأما عاد فأهكلوا بريح صرصر عاتية – أى شديدة الصوت فى الهبوب لها صرصرة .. وقيل الباردة من الصر – عاتية : أى عتت على خزنتها فلم تطعهم ولم يكن لهم عليها سبيل .. وجاوزت الحد والمقدار وقيل عتت على عاد فلم يقدروا على دفعها عنهم .

– سخرها عليهم – أى أرسلها وسلطها عليهم .. سبع ليال وثمانية – أيام حُسوما – أى متتابعه لا تَفْتُر ولا تنقطع حتى أهلكتهم – والحسم – : القطع – أى أنها حسمتهم بعذاب الإستئصال فلم تبق منهم أحدا . – فترى القوم فيها – أى فى تلك الأيام والليالى – صرعى – أى هلكى .. صرعهم الموت . – كأنهم أعجاز نخل خاوية – أى ساقطة .. وقيل خاوية الأجواف . – شبهَهُم بجذوع نخل ساقطة ليس لها رؤوس . – فهل ترى لهم من باقية – أى من نفس باقية .. وقيل إنهم لما أصبحوا موتى فى اليوم الثامن – كما وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله – أعجاز نخل خاوية – .. حملتهم الريح فألقتهم فى البحر فلم يبق منهم أحد .

– وجاء فرعون ومن قبله – أى ومن معه من جنوده وأتباعه ومن قبله من الأمم الكافرة – والمؤتفكات – أى قرى قوم لوط – يريد أهل المؤتفكات – وقيل يريد الأمم الذين ائتفكوا بخطيئتهم .. وهو قوله (بالخاطئه ) أى بالخطيئة والمعصيه وهو الشرك .. فعصوا رسول ربهم .. قيل يعنى موسى بن عمران – وقيل لوطا – والأولى أن يقال : المراد بالرسول كلاهما – لتقدم ذكر الأمتين جميعا – فأخذهم أخذة رابيه –

– إنا لما طغى الماء – أى عتا وجاوز حده حتى علا على كل شئ وارتفع فوقه .. وذلك فى زمن نوح عليه السلام وهو الطوفان – حملناكم فى الجاريه – يعنى حملنا آباءكم وأنتم فى أصلابهم .. فصح خطاب الحاضرين فى الجاريه أى السفينه التى تجرى فى الماء – لنجعلها – أى لنجعل تلك الفعله التى فعلناها .. من إغراق قوم نوح ونجاة من حملنا معه – لكم تذكرة – أى عبرة وموعظة – وتعيها – أى تحفظها – أذن واعيه – أى حافظه لما جاء من عند الله وقيل أذن سمعت وعقلت ما سمعت .. وقيل لتحفظها كل أذن فتكون عظه وعبرة لمن يأتى بعده والمراد صاحب الأذن – والمعنى ليعتبر ويعمل بالموعظه –

وقد تأملنا قصة نوح والطوفان وسفينة النجاة فى تأملاتنا السابقة تفصيلا فقد جعل الله سفينة نوح تذكرة وعظه لهذه الأمة حتى أدركها أوائلهم كما ذكر القرطبى فى تفسيره وقد أبقيت آثار تلك السفينه لتذكروا ما حل بقوم نوح .

ثم قول الله تعالى :

– فإذا نفخ فى الصور نفخة واحدة -13- وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة -14- فيومئذ وقعت الواقعة -15- وانشقت السماء فهى يومئذ واهية -16- والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية -17- يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية – 18-

أ – شرح المفردات : كما ذكرها الإمام المراغى فى تفسيره

نفخة واحدة : هى النفخة الأولى – ونقل القرطبى عن ابن عباس قوله : هى النفخة الأولى لقيام الساعه فلم يبق أحد إلا مات .

حملت الأرض والجبال : أى رفعت من أماكنها .

فدكتا دكة واحدة : أى ضرب بعضها ببعض حتى اندقت وصارت كثيبا مهيلا .

الواقعة : النازلة وهى يوم القيامة .

انشقت السماء : أى فتحت أبوابا .

واهية : أى ضعيفة .. أى مسترخية ضعيفة القوة .

أرجائها : أى جوانبها .. وقيل أطرافها – وقيل نواحيها .

ثمانيه : من الملائكه – خافيه : أى لا يخفى علىَّ شئ .

ب – المختصر التفسيرى :

يقدم لنا نخبة من علماء العصر نفحة من مدركات الزمن الذى نعيشه يقولون فيها :

فإذا نفخ الملك الموكل بالنفخ فى القرن نفخة واحدة وهى النفخه الثانيه .

فقد تحتاج العبارة الأخيره إلى توضيح لمخالفة وصفها بأنها النفخة الثانيه لنص الآية بأنها نفخة واحده ..

فقال الأمام أبى جعفر الطبرى فى تفسيره للآية يقول تعالى ذكره فإذا نفخ فى الصور اسرافيل نفخة واحده وهى النفخه الأولى .. وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة .. يقول فزلزلتا زلزلة واحدة ج 29 ص 36 .

وذكر الإمام القرطبى : قول ابن عباس : هى النفخة الأولى لقيام الساعة فلم يبق أحد الإ مات .. وقال : نَفْخَةٌ واحِدَةٌ أى لا تُثَنَىَّ . ج 18 ص 264 .

وقال الإمام ابن كثير فى تفسيره للآية : يقول الله تعالى مخبرا عن أهوال يوم القيامه : وأول ذلك نفخة الفزع ثم يعقبها نفخة الصعق .. حين يصعق من فى السموات ومن فى الأرض إلا من شاء الله .. ثم بعدها نفخة القيام لرب العالمين والبعث والنشور .. وهى هذه النفخة .. وقد أكدها ههنا بأنها واحدة .. لأن أمر الله لا يخالف .. ولا يمانع .. ولا يحتاج إلى تكرار ولا تأكيد .ج 4.ص414 .

وطابق قول هؤلاء جميعا قول علاء الدين البغدادى والإمام البغوى والإمام المراغى فى تفسيرهم للآيه كما سيأتى ثم يتابع المختصر فى تفسير القرآن الكريم تفسيره لهذه الآيات بقوله : ورفعت الأرض والجبال .. فَدُقَّتا دّقَّة واحدة شديدة فَدَقَّتْ أجزاء الأرض وأجزاء جبالها .. فيوم يحصل ذلك كله تقع القيامه .

وتشققت السماء يومئذ لنزول الملائكة منها .. فهى فى ذلك اليوم ضعيفة .. بعد أن كانت شديدة متماسكة .

والملائكة على أطرافها وحافاتها .. ويحمل عرش ربك فى ذلك اليوم العظيم ثمانية من الملائكة المقربين – فى ذلك اليوم تُعْرضون – أيها – الناس –على الله لا تخفى على الله منكم خافية أيا كانت .. بل الله عليم بها .. مطلع عليها .

ويقدم لنا الأمام المراغى مختصرا تفسيريا لهذه الآيات يقول فيه :

– فإذا نفخ فى الصور نفخة واحدة – أى فإذا نفخ إسرافيل النفخة الأولى التى عندها خراب العالم .

– وحملت الأرض والجبال – أى رفعت من أماكنها .. ولا ندرى كيف رفعت .. فذلك من أنباء الغيب .. فقد يكون ذلك بريح يبلغ من قوة عصفها أن تحملها .. أو أن ملكا يحملها .. أو بقدرة الله من غير سبب ظاهر.. أو بمصادمة بعض الأجرام .. كذوات الأزناب .. فتنفصل الجبال وترتفع من شدة المصادمة وترتفع الأرض من حيزها .

– فدكتا دكة واحدة – أى فضرب بعضها ببعض ضربة واحدة .. حتى تقطعت أوصالهما .. وصارتا كثيبا مهيلا .. وهباء منبثا .. لا يتميز بشئ من أجزائها عن الآخر .

– فحينئذ وقعت الواقعة – أى فحينئذ تقوم القيامة .

– وانشقت السماء فهى يومئذ واهية – أى وتصدعت السماء لأنها يومئذ ضعيفة المُنَّه كالعهن المنفوش بعد أن كانت شديده الأثر عظيمة القوه .

– والملك على أرجائها – أى والملائكه على جوانب السماء ينظرون إلى أهل الأرض – ولا ندرى كيف ذلك .. ولا الحكمة فيه .. فندع تفصيل ذلك .. ونؤمن به كما جاء فى الكتاب ولا نزيد عليه .

– ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية – أى ويحمل عرش ربك حينئذ فوق رءوسهم ثمانية من الملائكة .

– ويومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية – أى فيومئذ تحاسبون وتسألون .. ولا يخفى على الله شئ من أموركم فإنه تعالى عليم بكل شئ .. ولا يعزب عنه شئ فى الأرض ولا فى السماء .

ج – المختصر الإجمالى :

قول الله عز وجل ( فإذا نفخ فى الصور نفخة واحدة ) يعنى : النفخة الأولى – وحملت الأرض والجبال أى رفعت من أماكنها – فدكتا دكه واحدة – أى كسرتا وفتتا .. حتى صارتا هباء مُنْبَثَّا – فيومئذ وقعت الواقعة – أى قامت القيامة – وانشقت السماء فهى يومئذ واهية – أى ضعيفه لتشققها – والملك – يعنى الملائكه – على أرجائها – يعنى نواحيها وأقطارها .. وهو الذى لم ينشق منها .. وقيل تكون الملائكة على حافتها .. حتى يأمرهم الرب .. فينزلون .. فيحيطون بالأرض ومن عليها – ويحمل عرش ربك فوقهم – أى فوق رؤوسهم – يعنى الحملة – يومئذ – أى يوم القيامة – ثمانية – يعنى ثمانية أملاك – وجاء فى الحديث أنهم اليوم أربعه – فإذا كان يوم القيامه – أيدهم الله بأربعة آخرين .. فكانوا ثمانيه على صورة الأوعال – بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء – الأوعال : تيوس الجبل .

وروى أن الصخرة التى تحت الأرض السابعة – ومنتهى علم الخلائق على أرجائها .. يحملها أربعة من الملائكه لكل واحد منهم أربعة وجوه – وجه إنسان .. ووجه أسد .. ووجه ثور .. ووجه نسر – فهم قيام عليها .. قد أحاطوا بالسموات والأرض ورؤوسهم تحت العرش .

وروى عن جابر رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ” أذِنَ لى أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام “

* لحظة تأمل أخى الزائر : حتى لا يتسرب إليك الملل أود أن أصارحك أنه خطر لى أن أنصرف عن نقل هذه الأحاديث إليك ولكن لعظم شأن أحوال الآخره وتغيرها من حال إلى حال ودلالتها على عظم سعة الكون وعجائبه وغرائبه ودلالتها على قدرة الله سبحانه وتعالى وعظمته وقلة مالدينا من معلومات .. وضرورة إحاطتنا بهذه المعلومات خاصة فيما يتعلق بشأن الآخره ولعلك تلاحظ أن الإمامين علاء الدين البغدادى والبغوى رضى الله عنهما قد حرصا على الإختصار الشديد فى بدايه تفسيرهم لهذه الآيات ثم التوسع فى نقل هذه الأحاديث لأهميتها والحكمة البالغه فى العلم بها لذلك حرصت على نقلها إليك .

وروى الإمام البغوى فى تفسيره عن العباس بن عبدالمطلب قال “كنا جلوسا عند النبى صلى الله عليه وسلم بالبطحاء فمرت سحابه فقال النبى صلى الله عليه وسلم ” أتدرون ما هذا قلنا السحاب .. قال :” والمزن ” قلنا والمزن قال ” والعنان ” فقلنا والعنان .. فسكتنا فقال: ” هل تدرون كم بُعد ما بين السماء والأرض ؟ فقلنا الله ورسوله أعلم قال : ” بينهما مسيرة خمسمائة سنه .. ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة .. وكذلك غلظ كل سماء خمسمائة سنه .. وفوق السماء السابعه بحرين أعلاه وأسفله مابين السماء والأرض .. ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهن وركبهن كما بين السماء والأرض وفوق ذلك العرش – بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض .. والله تعالى فوق ذلك وليس يخفى عليه من أعمال بنى آدم شئً .

قوله تعالى : ” يومئذ تعرضون ” أى على الله تعالى للحساب .

” لا تخفى منكم خافية ” أى هو عالم بكل شئ من أعمالكم .. لا يخفى عليه شئ منها – وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عَرضات – فأما عَرْضتنان .. فجدال ومعازير .. وأما العرضة الثالثه فعند ذلك تطير الصحف فى الأيدى .. فآخذ بيمينه وآخذ بشماله .

* ثم نتأمل قول الله عز وجل :

” فأما من أوتى كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءُوا كتابيه -19- أنى ظننت أنِّى مُلاقٍ حسابيه -20- فهُو فى عيشة راضية -21- فى جَنَّةٍ عالية -22- قُطُوفها دانية -23- كلوا واشربوا هنيئًا بما أسلفتم فى الأيام الخالية -24- ” الحاقة

والمعنى :

أ – شرح المفردات :

هاؤم : أى خذوا : وقال القرطبى : تعالو وقيل : هَلُمّ وقيل كلمة وضعت لإجابة الداعى عند النشاط والفرح .

إنى ظننت : أى أيقنت وعلمت .

ملاق : أى معاين .

راضية : أى مرضية – يرضى بها صاحبها .

عالية : أى مرتفعة المكان – وقيل : عظيمة .. وقيل : رفيعة .

قطوف : أى ما يقطف .. ويجتنى من الثمار .

دانية : أى قريبة .. يتناولها .. القائم .. والقاعد .. والمضطجع .

هنيئا : أى بلا تنغيص ولا تكدير .

أسلفتم : أى قدمتم من الأعمال الصالحة .

فى الأيام الخالية : أى الماضيه .. وقيل : فى الدنيا .

ب – المختصر التفسيرى : لمعنى الآيات :

فأما من أعطى كتاب أعماله بيمينه فهو يقول من السرور والبهجه .. خذوا اقرؤو كتاب أعمالى .

إنى علمت فى الدنيا وأيقنت أنى مبعوث وملاق جزائى .

فهو فى عيشة مرضية لما يراه من النعيم الدائم .. فى جنة رفيعة المكان والمكانه .. ثمارها قريبة ممن يتناولها .

يقال تكريما لهم .. كلوا واشربوا أكلا وشربا لا أذى فيه بما قدمتم من الأعمال الصالحات فى الأيام الماضية فى الدنيا .

ج – المختصر الإجمالى :

” فأما من أوتى كتابه بيمينه فيقول هاؤم إقرءوا كتابيه ” أى أنه لما بلغ الغاية فى السروو وعلم أنه من الناجين باعطائه كتابه بيمينه أحب أن يظهر ذلك لغيره حتى يفرحوا له فقال ” أنى ظننت ” أى علمت وأيقنت ” أنى ملاق حسابيه ” أى أنى كنت فى الدنيا أستيقن أنى أحاسب فى الآخره .

” فهو فى عيشة راضية ” أى فى حالة من العيش مرضيه .. وذلك بأنه لقى الثواب وآمن العقاب .. فهو فى جنة عاليه قطوفها دانية أى ثمارها قريبة لمن يتناولها .. ويقال لهم كلوا واشربوا بما قدمتم لآخرتكم من الأعمال الصالحه فى الأيام الخالية ” أى الماضية .

ويصف لنا الإمام المراغى سُمُوّ هذه البهجه فيقول :

” فى جنة عاليه ” قطوفها دانية ” أى فهو يعيش فى بستان عال رفيع ذو ثمار دانية القطوف .. يأخذها المرء كما يريد إن أحب أن يأخذها بيده انقادت له .. وهو قائم أو جالس أو مضطجع وإن أحب أن تدنو إلى فيه دنت له .

” كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم فى الايام الخالية ” أى ويقول لهم ربهم جل ثناؤه : كلوا يا معشر من رضيت عنه فأدخلته جنتى – من ثمارها وطيب ما فيها من الأطعمه .. وأشربوا من أشربتها .. أكلا وشربا هنيئا لا تتأذون بما تأكلون وما تشربون جزاء من الله .. وثوابا على ما قدمتم فى دنياكم لآخرتكم من العمل بطاعتى .

* ثم نتأمل قول الله عز وجل :

” وأما من أوتى كتابه بشماله فيقول ياليتنى لم أوت كتابيه – 25- ولم أدْرِ ما حسابيه -26- ياليتها كانت القاضيه -27- ما أغنى عنى ماليه -28- هلك عنى سلطانية -29- خذوه فغلوه -30- ثم الجحيم صَلُّوه -31- ثم فى سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه -32- إنه كان لا يؤمن بالله العظيم -33- ولا يحض على طعام المسكين -34- فليس له اليوم هاهنا حميم -35- ولا طعام إلا من غسلين -36- لا يأكله إلا الخاطئون -37- “

والمعنى :

أ – شرح المفردات :

القاضيه : أى القاطعه : فلم يبعث بعدها للحساب .

ما أغنى عنى ماليه : أى لم يدفع عنى مالى الذى تركته فى الدنيا العذاب .

هلك : أى بطل – سلطانيه : أى ضلت عنى حجتى التى كنت أحتج بها .

غلوه : أى شدوه فى الأغلال – الغل : أى القيد يجمع اليدين بالعنق

الجحيم صلوه : أى أدخلوه النار المشتعله – سلسلة ذرعها : اى طولها .

فاسلكوه : أى فاجعلوه فيها – الغسلين : الدم والماء والصديد الذى يسيل من لحوم أهل النار – الخاطئون : الآثمون .

ب – المختصر التفسيرى :

وأما من أعطى كتاب اعماله بشماله فيقول : من شدة الندم .. ياليتنى لم أعط كتاب أعمالى .. لما فيه من الأعمال السيئه .. المستوجبه لعذابى وياليتنى لم أعرف أى شئ يكون حسابى – ياليت الموتة التى مُتَّهَا كانت الموتة التى لا اُبْعَثُ بعدها أبدا .. ولم يدفع عنى مالى من عذاب الله شيئا – غابت عنى حجتى وماكنت أعتمد عليه من قوة وجاه .. ويقال : خذوه – أيها الملائكة – واجمعوا ايده إلى عنقه .. ثم أدخلوه النار ليعانى حرها – ثم أدخلوه فى سلسلة طولها سبعون ذراعا .. إنه كان لا يؤمن بالله العظيم – ولا يحث غيره على إطعام المسكين فليس له يوم القيامة قريب يدفع عنه العذاب – وليس له طعام يطعمه إلا من عصارة أبدان أهل النار – لا يأكل ذلك الطعام إلا أصحاب الذنوب والمعاصى .

ج – المختصر الإجمالى :

يقول تعالى ” وأما من أوتى كتابه بشماله فيقول ياليتنى لم أوت كتابيه ” أى أنه لما نظر في كتابه ورأى قبائح أعماله مثبتة عليه .. تمنى أنه لم يؤت كتابه لما حصل له من الخجل والإفتضاح ” ولم أدر ما حسابيه ” أى ولم أعلم أى شئ حسابى الذى أحاسب به فكل ما سجل فى صحيفة أعمالى كله .. وبال .. ونكال .. وقبائح أعمال .. وتمنى الموت فيقول ” ياليتها كانت القاضية – ليت الموتة التى متها فى الدنيا كانت القاضية عن كل ما بعدها – القاطعه للحياه فلم أحيا بعدها ” ” ما أغنى عنى ماليه ” أى لم يدفع عنى مالى الذى كنت أملكه فى الدنيا من عذاب الله شيئا – ” هلك عنى سلطانية ” أى ضلت عنى حجتى التى كنت أحتج بها فى الدنيا – وقيل قال ذلك لما شهدت عليه الجوارح بالشرك .. وقيل زال عنى ملكى وقوتى وتسلطى على الناس وبقيت ذليلا – فيقول الله تعالى لخزنة جهنم ” خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه أى يأمر الزبانيه – أن خذوه .. وضعوا الأغلال فى عنقه ثم أدخلوه فى النار الموقده .. ثم فى سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه .. وذكرت التفاسير روايات كثيرة فى وصف السلسله وحجمها وطولها ووزنها وكيفية ادخاله فيها منها : زن كل ذراع سبعون باع .. وأن كل باع أبعد ما بين مكة والكوفة وأن كل حلقة منها لو وضعت على ذروة جبل لذاب كما يذوب الرصاص وغير ذلك – انظر تفسير القرطبى ج 18 ص 272

ومعنى ” فاسلكوه” أى ثم أدخلوه فى سلسلة طولها سبعون ذراعا تلف على جميع جسمه حتى لا يستطيع تحركا ولا انقلابا .

وقيل أنها تدخل فى دبره حتى تخرج من فيه – وقيل : تدخل عنقه فيها ثم يُجَرُّ بها – وقيل تدخل من دبره وتخرج من منخِرَيْهِ – وقيل : تدخل من فيه وتخرج من دبره فينادى أصحابه هل تعرفونى ؟ فيقولون لا .. ولكن قد نرى مابك من الخزى فمن أنت ؟ فينادى أصحابه أنا فلان بن فلان .. لكل إنسان منكم مثل هذا .

ثم يبين سبب استحقاقه هذا العذاب فقال :

” إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ” أى افعلوا ذلك به جزاء له على كفره بالله فى الدنيا وإشراكه به سواه .. وعدم قيامه بحق عبادته واداء فرائضه .

” ولا يحض على طعام المسكين ” أى ولا يحث الناس على إطعام أهل المسكنة والحاجة فضلا عن بذل المال لهم .

” فليس له اليوم ها هنا حميم ” أى فليس له يوم القيامه من ينقذه من عذاب الله تعالى – لأنه يَوْمٌ يفرَّ القريب من قريبه .. ويهرب الحبيب من حبيبه .. فليس له فى الآخرة قريب ينفعه أو شفيع يشفع له .

” فلا طعام إلا من غسلين لا يأكله إلا الخاطئون ” أى ليس لهم طعام إلا ما يسيل من لحوم أهل النار من الدم والصديد .. لا يأكله إلا الكافرون – وقيل : المشركون .. وقيل : المذنبون وأصحاب الذنوب والمعاصى كما أشرنا سابقا .

” إن يوم الفصل كان ميقاتا -17- يوم ينفخ فى السور فتأتون أفواجا -18- وفتحت السماء فكانت أبوابا -19- وسيرت الجبال فكانت سرابا -20- إن جهنم كانت مرصادا -21- للطاغين مآبا -22- لابثين فيها أحقابا -23- لا يذقون فيها بردا ولا شرابا -24- إلا حميما وغساقا -25- جزاء وفاقا -26- إنهم كانوا لا يرجون حسابا -27- وكذبوا بآياتنا كذابا -28- وكل شئ أحصيناه كتابا -29- فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا -30-

والمعنى :

أ – شرح المفردات :

يوم الفصل : هو يوم القيامه – سمى بذلك لأن الله يفصل فيه بين الخلائق .

ميقاتا : أى حدا تنتهى عنده الدنيا – الصور : البوق الذى ينفخ فيه يحدث صوتا إذا سمعه الناس .. يجتمعون عند النافخ .

الأفواج : الجماعه – فتحت السماء : انشقت وتصدعت .

سيرت الجبال : زالت من أماكنها وَتَفَتَّتْ صخورها .

سرابا : ترى كأنها جبال بعد الَتَفُّتتْ ولكنها غبار متراكم .

المرصاد : موضع ارتقاب الخزنه للمستحقين .

للطاغين : أى الذين طغوا فى مخالفة ربهم ومعارضة أوامره .

المآب : المرجع

لابثين : مقيمين .

أحقابا : مدة مبهمة من الزمان – البرد : برد الهواء وقد يراد به النوم .

البرد : الذى يمنع النوم .

شرابا : يسكن العطش – الحميم : الماء الحار – غساقا : قيحا وصديد أو عرق .

وفاقا : وفق أعمالهم السيئه – لا يرجون : لا يتوقعون .

حسابا : محاسبة على أعمالهم .. أو ثواب حساب .

كِذّابا : أى تكذيبا – كتابا : أى إحصاء بالكتابه .

ب – المختصر التفسيرى :

لما ذكر الله النعم الداله على قدرته أتبعها بذكر البعث والقيامه لأن القادر على خلق هذه النعم قادر على بعث الموتى وحسابهم فقال إن يوم الفصل بين الخلائق كان موعدا محددا بوقت لا يتخلف .

يوم ينفخ الملك فى القرن النفخه الثانيه .. فتأتون – أيها الناس جماعات – وفتحت السماء فصار لها فروج مثل الأبواب المفتحه – وجعلت الجبال تسير حتى تتحول هباء منثورا .. فتصير مثل السراب – إن جهنم كانت راصدة مُرْتقبة – للظالمين .. مرجعا يرجعون إليه .. ماكثين فيها أزمنة ودهورا لا نهاية لها – لا يذوقون فيها هواء باردا يبرد حر السعير عنهم – ولا يذقون فيها شرابا يُتَلَذَّذ به – لا يذوقون إلا ماء شديد الحرارة ومايسيل من صديد أهل النار – جزاء موافقا لما كانوا عليه من الكفر والضلال إنهم كانوا فى الدنيا لا يخافون محاسبة الله إيآهم فى الآخرة لأنهم لا يؤمنون بالبعث .. فلو كانوا يخافون البعث لآمنوا بالله وعملوا صالحا – وكذبوا بآياتنا المنزلة على رسولنا تكذيبا .. وكل شئ من أعمالهم ضبطناه وعددناه وهو مكتوب فى صحائف أعمالهم فذوقوا – أيها الطغاه – هذا العذاب الدائم فلن نزيدكم إلا عذابا على عذابكم .

ج – المختصر الإجمالى :

قال تعالى – إن يوم الفصل كان ميقاتا – أى وقتا وميعادا للأولين والآخرين .. لما وعد الله من الثواب والعقاب .. وقيل سمى يوم الفصل .. لأن الله تعالى يفصل فيه بين خلقه وقيل يقضى بينهم وقيل إن يوم القيامة وقت وميعاد للأولين والآخرين يثابون فيه أو يعاقبون .. ويتَمَايَزُون فيه ويكونون مراتب ودراجات بحسب أعمالهم .. وقد جعله الله حدا تنتهى عنده الدنيا وتجتمع فيه الخلائق ليَرَى كل أمرئ ما قدمت يداه فيجازى المحسن بإحسانه .. ويعاقب المسئ بإساءته .

وقوله تعالى ” يوم ينفخ فى الصور فتأتون أفواجا ” أى يوم ينفخ فى الصور فتحيون وتبعثون من قبوركم وتأتون إلى الموقف .. وإمام كل أمة رسولها – وقيل : يوم ينفخ فى الصور أى للبعث “فتأتون” أى إلى موضع العرض ” أفواجا ” أى أمما .. كل أمة مع إمامهم .. وقيل زمرا وجماعات – وروى من حديث معاذ بن جبل قلت : يارسول الله .. أرأيت قول الله تعالى ” يوم ينفخ فى الصور فتأتون افواجا ” فقال النبى صلى الله عليه وسلم ” يامعاذ بن جبل لقد سألت عن أمر عظيم .. ثم أرسل عينيه باكيا .. ثم قال : “يحشر عشرة أصناف من أمتى أشتاتا .. وقد ميزهم الله من جماعات المسلمين .. وبدل صورهم .. فمنهم على صورة القردة .. وبعضهم على صورة الخنازير .. وبعضهم منكَّسون : أرجلهم أعلاهم .. ووجوههم يُسْحَبُون عليها – وبعضهم عُمْىٌ يتردّدون – وبعضهم صُمُّ بُكْمٌ لا يعقلون – وبعضهم يمضُغون ألسنتهم .. فهى مُدلاَّة على صدورهم .. يسيل القيح من أفواههم لعابا .. يتقذرهم أهل الجمع – وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم – وبعضهم مُصَلَّبون على جذوع من النار – وبعضهم أشد نَتْنا من الجيف – وبعضهم ملبسون جلابيب من القطران لاصقة بجلودهم .. فأما الذين على صورة القردة .. فالقَتَّات من الناس .. يعنى النمام – وأما الذين على صورة الخنازير .. فأهل السحت والحرام والمِّكس .. وأما المنكسون رءوسهم ووجوههم فأكلة الربا – والعُمْى : من يجور فى الحكم .. والصم البكم : الذين يعجبون بأعمالهم – والذين يمضغون ألسنتهم : فالعلماء والقصاص الذين يخالف قولهم فعلهم – والمقطعة أيديهم وأرجلهم : فالذين يؤذون الجيران – والمصلبون على جذوع النار : فالسعاة بالناس إلى السلطان –والذين هم أشد نتنا من الجيف : فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات ويمنعون حق الله من أموالهم .. والذين يلبسون الجلاليب : فأهل الكِبْر والفخر والخَيلاَء .

أنظر تفسير /القرطبى ج19.ص 175/176 .

قوله تعالى ” وفتحت السماء فكانت أبوابا ” أى فكانت ذوات أبواب لنزول الملائكه ” وسيرت الجبال ” أى عن وجه الأرض – “فكانت سرابا” أى هباء منبثا كالسراب فى عين الناظر – فلا تكون فى ذلك اليوم على ثباتها المعروف .

وذكر الإمام المراغى أن خلاصة ذلك .. أن الله سبحانه وتعالى ذكر أحوال – الجبال بوجوه مختلفه .. فذكر أول أحوالها وهى الإندكاك بقوله ” وحملت الجبال فدكتا دكة واحدة ” ثم ذكر أنها تصير كالعهن المنفوش .. بقوله ” وتكون الجبال كالعهن المنفوش” ثم أنها تصير هباء .. بقوله ” وبست الجبال بَسًّا فكانت هباء منبثَّا ” ثم ذكر أنها تنسف وتحملها الرياح .. كما جاء فى قوله ” وترى الجبال تَحْسَبُهَا جامدة وهى تَمُرُّ مَرّ السَّحَاب ” ثم ذكر أنها تصير سرابا – أى لا شئ كما فى هذه الآيه .

وقوله ” إن جهنم كانت مرصاد ” أى طريقا وممرا فلا سبيل لأحد إلى الجنة حتى يقطع النار .. وروى عن أبن عباس ” إن على جسر جهنم سبع محابس يسأل العبد عند أولها عن شهادة أن لاإله إلا الله فإن جاء بها تامه جاز إلى الثانى .. فيسئل عن الصلوات فإن جاء بها تامه جاز إلى الثالث .. فيسئل عن الزكاة .. فإن جاء بها تامه جاز إلى الرابع .. فيسئل عن الصوم .. فإن جاء به تاما جاز إلى الخامس .. فيسأل عن الحج .. فإن جاء به تاما جاز إلى السادس .. فيسئل عن العمرة .. فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع .. فيسأل عن المظالم .. فإن خرج منها وإلا يقال انظروا فإن كان له تطوع أكملت به أعماله فإذا فرغ انطلق به إلى الجنه وقيل كانت مرصادا أى معدة لهم – وقيل هو من رصدت الشئ أرصده .. والمعنى إن جهنم ترصد الكفار أى تنتظرهم . ( أنظر تفسير الخازن م 4 . ج7 .ص 200 .

وقوله تعالى ” للطاغين مآبا ” أى مرجعا يرجعون إليه والمراد بالطاغين : من طغى فى دينه بالكفر أو فى دنياه بالظلم وقيل : إنها – أى جهنم .. مرجع للذين طغوا وتكبروا وكفروا ولم يستمعوا إلى الداعى الذى جاءهم بالهدى .. ونور الحق وبعد أن بين الحق أن جهنم مستقر للطاغين بين مدة ذلك بقوله ” لابثين فيها أحقابا ” أى ماكثين فى النار مادامت الأحقاب وهى لا تنقطع .. فكلما مضى حُقُب جاء حُقُب .. والحُقُب بضمتين : الدهر والأحقاب الدهور – أى يمكثون أحقاب الآخره التى لا نهاية لها – أى يمكثون فيها أبدا . وأنهى القرطبى تفسيره للآيه بقوله وإنما المعنى – والله أعلم .

أنهُم لابثين فيها أزمانا ودهورا .. كلما مضى زمن يعقبه زمن .. ودهر يعقبه دهر .. هكذا أبدا الآبدين من غير انقطاع .

وقال الإمام المراغى : ” لابثين فيها أحقابا ” أى أنهم سيمكثون دهورا متلاحقه .. يتبع بعضها بعضا .. فكلما انقضى زمن تجدد لهم زمن آخر – كما قال تعالى : ” يريدون أن يخرجوا من النار وماهم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم “

ثم بين الحق تبارك وتعالى أحوال الطغاة فى جهنم فقال :

روى عن النبى صلى الله عليه وسلم ” إن الحُقُب الواحد .. ثلاثون ألف سنه .

وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه – قال النبى صلى الله عليه وسلم ” والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يكون فيها أحقابا ” الحُقُب بضع وثمانون سنه .. والسنه ثلاثمائة وستون يوما .. كل يوم ألف سنه مما تعدون .. فلا يتَّكِلَّنَّ أحدكم على أنه يخرج من النار “

قال تعالى ” لا يذقون فيها ” أى فى الأحقاب ” بردا ولا شربا ” أى لا يجدون فى جهنم .. بردا لقلوبهم .. ولا شرابا طيبا يتغذون به ولهذا قال تعالى ” إلا حميما وغساقا ” وقيل : فأما الحميم فهو الحار الذى قد انتهى حره وحموّه .. والغساق هو ما إجتمع من صديد أهل النار .. وعرقهم .. ودموعهم .. وجروحهم فهو بارد لا يستطاع من برده .. ولا يواجه من نتنه .

وقيل : والمعنى أنهم يلبثون فيها أحقابا لا يذوقون فيها أى فى تلك الأحقاب بردا .. ولا شرابا إلا حميما وغساقا .. فهذا توقيت لأنواع العذاب الذى يبدلونه ولا توقيت للبثهم فيها .

وقيل : أى لا يذوقون فى جهنم بردا يبرد حر السعير عنهم إلا الغساق .. ولا شرابا يرويهم من شدة العطش إلا الحميم فهم لا يذوقون مع شدة الحر ما يكون فيه راحة من ريح باردة .. أو ظل يمنع من نار .. ولا يجدون شرابا يسكّن عطشهم .. ويزيل الحرقة من بطوانهم .. ولكن يجدون الماء الحار المغلى .. وما يسيل من جلودهم من الصديد .. والقيح .. والعرق وما شابه ذلك .

وبالجمله فهم لا يذوقون فى جهنم شرابا إلا الحميم البالغ الغاية فى السخونه .. أو الصديد المنُتن .. ولا بردا إلا الماء الحار المغلى ..

“جزاء وفاقا ” أى جازيناهم جزاء وافق أعمالهم .. وقيل : وافق العذاب الذنب : فلا ذنب أعظم من الشرك ولا عذاب أعظم من النار – أى هذا الذى صاروا إليه من هذه العقوبه .. وافق أعمالهم الفاسدة التى كانوا يعملونها فى الدنيا ” إنهم كانوا لا يرجون حسابا” أى أنهم كانوا لا يخافون أى محاسبة على أعمالهم – أى أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث فيرجون حسابهم .. وقيل : إنهم كانوا لا يخافون أن يحاسبوا ” وكذبوا بآياتنا ” أى التى جاءت بها الأنبياء .. وقيل كذبوا بدلائل التوحيد والنبوه والبعث والحساب ” كذابا ” أى تكذيبا – وقيل : كذبوا بجميع البراهين الدالة على التوحيد .. والنبوة .. والمعاد .. وبجميع ما جاء فى القرآن الكريم .

وإجمالا : إنهم أقدموا على جميع المنكرات .. وأنكروا بقلوبهم الحق واتبعوا الباطل .

ثم بين الله أنه يعلم جميع أعمالهم ولا يغيب عليه شئ منها فقال : ” وكل شئ أحصيناه كتابا ” أى وكل شئ من الأعمال ” أحصيناه ” أى بيناه وأثبتناه ” كتابا ” أى فى كتاب وهو اللوح المحفوظ وقيل معناه : وكل شئ علمناه علما لا يزول ولا يتغير .. ولا يتبدل – والمعنى : أنا عالم بجميع ما فعلوه من خير وشر .. وأنا أجازيهم على قدر أعمالهم جزاء وفاقا ” فذوقوا ” أى يقال لهم ذوقوا ” فلن نزيدكم إلا عذابا ” قيل هذه الآية أشد آية فى القرآن على أهل النار – كلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد منه .

وقيل : إنا علمنا جميع ما عملوا علما ثابتا لا يتغير – فأحصيناه إحصاء لا يزول ولا يغيب منه شئ .. ورتب على ما فعلوه الجزاء فقال ” فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ” أى فذوقوا ما أنتم فيه من العذاب فلن نزيدكم إلا عذابا من جنسه .

وبعد أن بين حال المكذبين أتْبعه بفوز المتقين فقال : ” إن للمتقين مفازا -31- حدائق وأعنابا -32- وكواعب أترابا -33- وكأسا دهاقا -34 – لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا -35- جزاء من ربك عطاءً حسابا-36- “

تحقيقا لقوله تعالى ” فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون” ضمن نتائج إختبار التأمين الأخروى السابق ذكره فى الآيتين 38و 39 من سورة البقرة .

والمعنى

أ – شرح المفردات :

مفازا : أى فوزا بالنعيم والثواب .

حدائق : أى بساتين فيها أنواع الثمر .

وكواعب : هى التى نهد ثدياها وتكعبا .

الأتراب : هى التى سنها من سن صاحبتها

الكأس : إناء من البلور للشراب .

دهاقا : أى ممتلئه .

اللغو : الباطل من الكلام .

الكذاب : التكذيب .

عطاء : أى تفضلا منه .

حسابا : أى كافيا .

ب – المختصر التفسيرى :

إن للمتقين ربهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه .. مكان فوز .. يفوزون فيه بمطلوبهم وهو الجنه .. بساتين وأعناب .. وناهدات .. مستويات السن .. وكأس خمر ملأى لا يسمعون فى الجنة كلاما باطلا .. ولا يسمعون كذبا .. ولا يكذب بعضهم بعضا كل ذلك مما منحهم الله .. منة .. وعطاء منه كافيا .

ج – المختصر الإجمالى :

” إن للمتقين مفازا ” أى إن لمن اتقى محارم الله وخاف عقابه فوزا بالكرامة .. والثواب العظيم فى جنات النعيم .. وفسر هذا الفوز بأنه : حدائق : فيها بساتين مُحَوَطَة بأشجار الجنة .. ” وأعنابا ” أى كروم الأعناب – وفيها كل ما يشتهون من ثمار الجنة .. وقيل : فسر هذا الفوز وفصله فقال ” حدائق وأعنابا ” أى بساتين من النخيل .. والأعناب .. ومختلف الأشجار .. لها أسوار محيطة بها ..
وفيها الأعناب .. اللذيذه الطعم .. مما تشتهيها النفوس وتقر به العيون ” وكواعب أترابا : أى جوارى نواهد قد تكعبت ثديهن وقيل : أى وحورا كواعب لم تَتَدَلَّ كواعب أثديُهُن وقيل أى .. وحورا .. كواكب لم تَتَدَلَّ كواكب ثديهن وهن أبكار عرب أتراب – وعلينا أن نؤمن بأن التمتع بالنساء لا نعلم كنهه فى الآخره .. وأنه تمتع يفوق ماهو مثله من لذات فى الحياة الدنيا .. وأنه يوافق أحوال العالم الأخروى .

” وكأسا دهاقا ” أى مملوءة متتابعه وقيل صافيه .

” لا يسمعون فيها ” أى فى الجنة .. وقيل فى حالة شربهم .. لأن أهل الدنيا يتكلمون بالباطل فى حالة شربهم .

” لغوا” أى باطلا من الكلام – ” ولا كذابا ” أى تكذيبا .. والمعنى : أنه لا يكذب بعضهم بعضا .. ولا ينطقون به –

” جزاء من ربك عطاء حسابا ” – أى جازاهم جزاء .. وأعطاهم عطاء .. حسابا .. أى كافيا وافيا .. وقيل : حسابا يعنى كثيرا – وقيل جزاء بقدر أعمالهم .. ولما بين أنواع النعيم بين أن هذا العطاء جزاء لهم على ما عملوا فأعطاهم عطاء وافيا ونجاهم من عذاب النار – وتلاحظ أخى الزائر أن جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين الذى تأملناه فى الآيات السابقه هو تطبيق واقعى وحقيقى لأختبار التأمين الأخروى المنصوص عليه فى الآيتين 38 و39 من سورة البقرة والمكرر ذكره فى كثيرا من سور القرآن الكريم وقد ذكرنا فى تأملاتنا السابقه بعض هذه التطبيقات .. ينْذرنا وينبهنا .. ويحذرنا ويرشدنا فيها ربنا سبحانه وتعالى لنتدبر وننظر ماذا نقول وماذا نعمل فى دنيانا حتى لا نندم ولا ينفع الندم فى آخرتنا .. ونتمنى لو كنّا ترابا والعياذ بالله .. ولا ينفع الندم كما ذكرنا.

* ومن هذه التحذيرات والإنذارات قول الله تعالى فى ختام السورة ” رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا -37- يوم يقوم الروح والملائكة صفا – 38- لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا .. ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا -39- إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ماقدمت يداه – ويقول الكافر ياليتنى كنت ترابا – 40 –

والمعنى :

أ – شرح المفردات :

الخطاب : المخاطبة والمكالمه .

الروح : جبريل عليه السلام .

المآب : المرجع .

الإنذار : الإخبار بالمكروه قبل وقوعه .

المرء :الإنسان .. ذكرا .. كان أو أنثى .

ماقدمت يداه : أى ما صنعه فى حياته الأولى .

ب – المختصر التفسيرى :

أى أن رب السماوات والأرض ورب مابينهما .. رحمن الدنيا والآخرة .. لا يملك جميع من فى الأرض أو السماء أن يسألوه إلا إذا أذن لهم – يوم يقوم جبريل والملائكه مصطفين لا يتكلمون بشفاعة لأحد إلا من أذن له الرحمن أن يشفع وقال سدادا ككلمة التوحيد .

ذلك الموصوف لكم هو اليوم الذى لا ريب أنه واقع فمن شاء النجاة فيه من عذاب الله فليتخذ سبيلا إلى ذلك من الأعمال الصالحه التى ترضى ربه – إنا حذرناكم – أيها الناس – عذابا قريبا يحصل .. يوم ينظر المرء ما قدم من عمله فى الدنيا ويقول الكافر متمنيا الخلاص من العذاب ” ياليتنى صرت ترابا مثل الحيوانات عندما يقال لها يوم القيامه كونى ترابا .

وقيل فى معنى هذه الآيات مختصرا أيضا :

أن الله سبحانه هو المالك لشئون السماوات والأرض .. المدبر لأمورهما .. ولا يملك أحد من أهلهما مخاطبته تعالى بالشفاعه إلا بإذنه .

وأن الملائكه على جلالة أقدارهم .. ورفيع درجاتهم لا يستطيعون أن يتكلموا فى هذا اليوم – إجلالا لربهم .. ووقوفا عند أقدارهم إلا إذا أذن لهم ربهم .. وقالوا : قولا .. صدقا وصوبا .

والملائكه مخلوقات غيبها الله عنا .. ولم يجعل لنا قدرة على رؤيتها .. فعلينا أن نؤمن بها .. وإن لم نراها .. ونصدق بما جاء فى كتاب الله من أوصافها غير باحثين عن حقيقتها ..

ثم بين أن ” ذلك اليوم الحق ” هو يوم القيامه وأنه يوم متحقق لا ريب فيه ولا مفر عنه .. وأنه يوم تبلى فيه السرائر .. وتنكشف فيه الضمائر – أما أيام الدنيا فأحوال الخلق فيها مكتوبه .. وضمائرهم غير معلومه ..

” فمن شاء اتخذا إلى ربه مآبا ” أى فمن شاء عمل عملا صالحا يقربه من ربه .. ويدنيه من كرامته وثوابه ويباعد بينه وبين عقابه .. ” إنا أنذرناكم عذابا قريبا ” أى إنا نحذركم من عذاب يوم القيامه وهو قريب كما قال تعالى ” كأنهم يوم يرونها لم يلبوثا إلا عشية أو ضحاها ” ..

” يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ” أى هذا العذاب القريب .. يوم ينظر المرء ما صنعه فى حياته الأولى من الأعمال .. فإن كان قد آمن بربه .. وعَمَل عمل الأبرار فطوبى له وحسن مآب .. وإن كان قد كذب به وبرسوله فله الويل وأليم العذاب .. نحو قوله تعالى ” يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا .. وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا “

” ويقول الكافر ياليتنى كنت ترابا ” أى ليتنى كنت حجرا أو ترابا لا يجرى عليه التكليف حتى لا يعاقب هذا العقاب .

ج – المختصر الإجمالى :

قوله تعالى “رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا ” أى لا يقدر الخلق أن يكلموا الرب إلا بإذنه .. وقيل لا يملكون منه خطابا .. أى لا يملكون شفاعة إلا بإذنه .. فى ذلك اليوم ” يوم يقوم الروح والملائكة “

وقفة تأمل : الأمور المتعلقة بالآخرة من الغيبيات التى لا يعلمها إلا الله .. ولا تُعرف حقيقتها إلا عن طريق القرآن الكريم والأحاديث المروية عن النبى صلى الله عليه وسلم .. وما أُثر عن الصحابه والتابعين من روايات نشأ عنها الإختلاف فى معنى الروح إلى ثمانية أقوال كما ذكر القرطبى فى تفسيره – ج 9.ص 186 – والخازن ج7 .ص202 – وننقل فى هذه التأملات ما ذكره القرطبى .. قال :

أختلف فى الروح على أقوال ثمانيه :

الأول : أنه ملك من الملائكه .. قال ابن عباس : ماخلق الله مخلوقا بعد العرش أعظم منه .. فإذا كان يوم القيامه قام هو وحده صفا وقامت الملائكة كلهم صفا .. فيكون عِظَمْ خلقْه مثل صفوفهم .. وروى عن ابن مسعود قوله : الروح ملك أعظم من السموات السبع ومن الأرضيين السبع .. ومن الجبال .. وهو حيال السماء الرابعه .. يسبح الله كل يوم اثنتى عشرة ألف تسبيحه .. ويخلق الله من كل تسبيحة ملكا فيجئ يوم القيامه وحده صفا وسائر الملائكة صفا .

الثانى : أنه جبريل عليه والسلام .. وروى القرطبى عن ابن عباس : إن عن يمين العرش – نهرا من نور .. مثل السموات السبع .. والأرضيين السبع .. والبحار السبع .. فيدخل جبريل كل يوم -سحرا – فيغتسل .. فيزداد نورا على نوره .. وجمالا على جماله .. وعظما على عظمه .. ثم ينتفض فيخلق الله من كل قطرة تقع من ريشه – سبعين ألف ملك .. يدخل منهم كل يوم سبعون ألفا البيت المعمور .. والكعبه سبعون ألفا لا يعودون إليهما إلى يوم القيامة – وقال – وهب – : إن جبريل عليه السلام واقف بين يدى الله تعالى تَرْعَدُ فرائضه .. ويخلق الله تعالى من كل رَعدة مائة ألف مَلَكَ – فالملائكة صفوف بين يدى الله تعالى منكسة رءوسهم .. فإذا أذن الله فى الكلام قالوا لا إله إلا أنت .. وهو قوله تعالى : ” يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن ” فى الكلام ” وقال صوابا ” يعنى قوله : ” لا إله إلا أنت ” .

الثالث : هم خلق على صورة بنى آدم كالناس وليسوا بناس – هم جند من جنود الله تعالى .

الرابع : أنهم أشراف الملائكه .

الخامس : أنهم حفظة الملائكة .

السادس : أنهم بنو آدم – وقيل الروح خلق من خلق الله على صورة بنى آدم .

السابع : أرواح بنى آدم تقوم صَفَّا فتقوم الملائكة صفًا – أى يقومون صفوفا .

الثامن : أنه القرآن .

وذكر الطبرى الروايات التى قيلت فى معنى الروح ولم يرجح أى منها – وقال فى ختام كلامه – والصواب من القول فى ذلك أن يقال أن الله تعالى ذكره أخبر عن خلقه أنهم لا يتكلمون يوم يقوم الروح والملائكه صفا إلا من أذن له منهم فى الكلام .. الرحمن .. وقال صوابا .. فالواجب أن يقال كما أخبر .. إذ لم يخبرنا فى كتابه ولا على لسان رسوله أنه عنى بذلك نوعا من أنواع الصواب والظاهر محتمل جميعه .

وذكر القرطبى فى تفسيره قول الله تعالى ” ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ” بعد ذكره لبعض هذه الأقوال : والصحيح الإبهام لقوله تعالى ” قل الروح من أمر ربى ” ودليل على خلق الروح – أى هو أمر عظيم وشأن كبير من أمر الله تعالى – مُبْهِمًا له وتاركا تفصيله .. ليعرف الإنسان – على القطع عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها – وإذا كان الإنسان فى معرفة نفسه هكذا .. كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى .

وحكمة ذلك تعجيز العقل عن ادراك معرفة مخلوق مجاور له دلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز .

قوله تعالى ” ذلك اليوم الحق ” أى الكائن الواقع لا محاله وهو يوم القيامه ” فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا أى سبيلا يرجع إليه .. وهو طاعة الله وما يُتقرب به إليه .

“إنا أنذرناكم ” أى خوفناكم فى الدنيا – ” عذابا قريبا ” أى فى الآخرة وكل ما هو آت قريب – يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ” يعنى من خير أو شر مثبتا فى صحيفته ينظر إليه يوم القيامة ” ويقول الكافر ياليتنى كنت ترابا ” وقيل معناه أن الكافر إذا رأى ما أنعم الله به على المؤمنين من الخير والرحمة .. قال : ياليتنى كنت ترابا يعنى متواضعا فى طاعة الله فى الدنيا ولم أكن جبارا متكبرا .


أضف تعليق